الأحد، 16 سبتمبر 2012

الأخسرون أعمالا


هل سألت نفسك يومًا إذا كنت من الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟ دعونا نتأمل هذه الآية الكريمة .. يقول - تعالى - : "قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " (الكهف:103،104) يقول الشيخ الشعراوى - رحمه الله - : (قُلْ) أي: يا محمد قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً [الكهف: 103] الأخسر: اسم تفضيل من خاسر، فأخسر يعني أكثر خسارة (أْعْمَالاً) أي: خسارتهم بسبب أعمالهم. وهؤلاء الأخسرين هم:  الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
   
    وقد ضلَّ سَعْي هؤلاء؛ لأنهم يفعلون الشر، ويظنون أنه خير فهم ضالّون من حيث يظنون الهداية. ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر، ويُنَادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة، ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صُنْعاً وقدَّموا خَيْراً، لكن هل أعمالهم هذه كانت لله؟ الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ، فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيماً وتكريماً وتخليداً لذكراهم.
ومعنى: ضَلَّ سَعْيُهُمْ [الكهف: 104] أي: بطُل وذهب وكأنه لا شيءَ، مثل السراب كما صَوَّرهم الحق سبحانه في قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً *[النور: 39].
    وهؤلاء لا يبخسهم الله حقوقهم، ولا يمنعهم الأَجْر؛ لأنهم أحسنوا الأسباب، لكن هذا الجزاء يكون في الدنيا؛ لأنهم لما عملوا وأحسنوا الأسباب عملوا للدنيا، ولا نصيبَ لهم في جزاء الآخرة.
     ويمكن أن تنطبق هذه الآية ليس فقط على الكفار ولكن أيضا على المسلم حين يخطئ أو يرتكب معصية وهو يظن أنها خير مثل من ينصب ويخدع الناس ليأخذ أموالهم ظنا منه أن هذه شطارة وفهلوة وذكاء أو مثل من تخلع الحجاب بحجة أنه رجعية وتخلف أما السفور فهو تقدم ورقى ومثل من يرى فى المشاهد الإباحية والرقص والعرى فن ورسالة أو مثل فرعون الذى رأى كفره شئ جميل وعظيم فقال لقومه: مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ. [غافر:29] أو مثل الحاكم الظالم الذى يبيد شعبه ليستمر فى الحكم ويرى فى هذا العمل عملا عظيما حسنا فى نظره أو كالصحفى الذى ينشر فضائح الناس ويتتبع عوراتهم ويشوه سمعتهم بحجة أنه يعمل خبطة صحفية وينشر الحقائق والواقع.

   يقول تعالى أيضا: "أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ"

  أى:أفمن حسَّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر به ، وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان ، فرآه حسنا فحسب سيئ ذلك حسنا ، وظن أن قبحه جميل ، لتزيين الشيطان ذلك له . ذهبت نفسك عليهم حسرات منه    فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) يقول : فإن الله يخذل من يشاء عن الإيمان به واتباعك وتصديقك ، فيضله عن الرشاد إلى الحق في ذلك ، ويهدي من يشاء ، يقول : ويوفق من يشاء للإيمان به واتباعك والقبول منك ، فتهديه إلى سبيل الرشاد ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .. يقول : فلا تهلك نفسك حزنا على ضلالتهم وكفرهم بالله وتكذيبهم لك .

   
هذا هو مفتاح الشر كله. أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً .أن يعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها .ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه
لأنه واثق من أنه لا يخطىء ! متأكد أنه دائماً على صواب !معجب بكل ما يصدر منه.لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء ولا أن يحاسبها على أمر .وبطبيعة الحال لا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في رأي يراه .لأنه حسن في عين نفسه .مزين لنفسه .لا مجال فيه للنقد  ولا موضع فيه للنقصان !هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على إنسان فيقوده إلى الضلال . فلا يأمن مكر الله   .

 "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً  ".ليشمل كل جواب .كأن يقال: أفهذا يرجى له صلاح وتوبة ؟ أفهذا يستوي مع المتواضعين الأتقياء؟ . . .إلى آخر صور الإجابة عن مثل هذا السؤال .وهو أسلوب كثير التردد في القرآن .وتجيب الآية بأحد هذه الأجوبة من بعيد:فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات
وكأنما يقول: إن مثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء  بما تقتضيه طبيعة الضلال في ذلك وطبيعة الهدى في هذا .طبيعة الضلال برؤية العمل حسنا وهو سوء . وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى . .وهو مفرق الطريق الحاسم بين الهدى والضلال
وما دام الأمر كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير .ورأوا الناس في الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون ولا يرون ما فيها من الخير والجمال .ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال.

    لذلك يقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه:   الدعاء المأثور:  "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه" ذكره البهوتي في كتابه "شرح منتهى الإرادات"قال: وفي الدعاء المأثور: "اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما) " ابن كثير) ، وهذا الدعاء من الأدعية الجامعة النافعة ، ومعناه أن العبد يسأل ربه تبارك وتعالى أن يوفقه لمعرفة الحق والصواب في كل ما حصل فيه الاختلاف بين الناس من مسائل العلم، وفي كل ما يستجد من أمور للعبد في حياته ويسأل الله أن يرزقه اتباع الحق والثبات عليه، كما أنه يسأل ربه أن يوفقه لرؤية الباطل باطلاً وضلالاً ويرزقه اجتنابه كما قيل:
عـــرفت الشــرَّ لا                                        للشر لكن لتـوقيه
ومن لم يعرف الشر                                          من الناس يقع فيه
وقد أمر الله عباده أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم في كل صلاة "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" [الفاتحة:6]، وكان النبي - صلي الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل. فاطر السماوات والأرض. عالم الغيب والشهادة. أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلفت فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" أخرجه مسلم ، وفي حديث أبي ذر – رضي الله عنه -: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ..." أخرجه مسلم.

    وكم من المعاني العظيمة التي تحملها تلك الكلمات والتي تجبرنا على الوقوف عندها والتأمل فيها
"أرنا الحق حقاً "لا يكفي أن يكون هناك حق لتحصل النجاة ، وإنما تحصل النجاة لو أرانا الله ذلك الحق أنه حقاً ، فكم من الناس والأمم جاءهم الحق من ربهم ولكن ٌطمست قلوبهم وعميت أبصارهم عنه فما رأوه حقاً واعتبروه باطلاً فنكروه بالكلية وحاربوه وعاندوا واستكبروا ، ( وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ) (الزخرف : 30) ومثلما قالى تعالى عن قوم ثمود:" وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى"(فصلت:17)

   ولنا في قصص وسير الأنبياء جميعاً أكبر الدليل على ذلك ، فما من نبي أرسل من الله إلا عاداه قومه وردوه وأنكروا ما جاء به وهو الحق من ربه .. ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) (السجدة : 3(

    وإنها لدرجة كريمة ومنة عظيمة من الله على عبده لمَّا يريه الحق حقاً ، فحري بالعبد آنذاك أن يحمد ربه ويقول الحمد لله الذي عافنا مما أبتلى به غيرنا وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا. فمن هداه الله أن يرى الباطل باطلا ويرزقه اجتنابه ويعرف الحق حقا ويرزقه اتباعه هو فى نعمة لا يحظى بها كثير من الناس فأغلب الناس ترى الباطل حقا أو ترى الحق باطلا فالتمييز بين الحق والباطل نعمة تستحق الشكر ، لذلك سُمِّى عمر بن الخطاب رضى الله عنه "الفاروق" لأنه استطاع أن يميز بين الحق والباطل فى وقت افتقد غيره من الكفار إلى تلك الميزة.

"وارزقنا إتباعه"  يا لحظ وسعادة من أراه الله الحق حقاً ثم رزقه إتباعه ، ولنا القدوة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما جاءهم الحق من ربهم إلا آمنوا به وصدقوا النبي واتبعوه ، إتباع المستسلم المسلم لأمر الله ورسوله ، لا إتباع العقلانيين!!

   فكان إتباعهم في القول والفعل ، وفي الشكل والمضمون ، وفي الجوهر والمظهر وفي كل صغير وكبير ولم يكن من النبي شيء صغير ، أما غيرهم مما عرفوا الحق من ربهم ورأوه حقاً ولكن لم يوفقوا لإتباعه فكان إتباعهم للهوى أكبر ومن اتبع الهوى هوى... ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص : 26

الشطر الثاني " وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه "

كم من باطل زينه الشيطان عند بعض القوم وألبس عليهم فتعاملوا معه وكأنه الحق ويظنون أنهم يرضون ربهم بإتباعه او يفكروا فى الامر كذلك

"وارزقنا اجتنابه "كل نبي أرسل جاء لقومه بالآيات من الله ، وكلما رأوا آية وعلموا أن الله هو الحق وما هم عليه باطل ما ازدادوا إلا تمسكاً به ، فمنهم من كانت علته في ذلك اتباع الآباء"  بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ"  ) الزخرف : 22 ) ومنهم من خاف على ضياع جاهه وماله وملكه إن ترك ما هو عليه من الباطل فآثر الحياة الدنيا على الآخرة فهلك ، ومنهم من حالت نزعته القبلية وحمية الجاهلية دون اجتنابه للباطل مع علمه به ومثل ذلك قوم مسيلمة الكذاب ، لما خرج فيهم وادعى النبوة قالوا له إن محمداً يتلو آيات ويقول أنها من وحي ربه فقل لنا مثل ما يقول ، فألف بعض الخزعبلات من الأقوال وادعى أنها من وحي الله له ، وتعالى الله سبحانه أن يكون ذلك من كلامه ، فما أن سمعه قومه وعرفوا كذبه إلا أن قالوا : والله إنا لنعلم إنك لكذاب ولكن أن يكون لنا نبي نتبعه من قومنا خير لنا من أن نتبع نبيا من قريش!! ، ومن الناس وما أكثرهم في زماننا هذا من عرفوا الباطل وأوغلوا فيه لما عظّموا عقولهم ، يأتيهم الدليل من الشرع واضح بين على ما هم فيه من الضلالة فيستكبروا ويعاندوا ويردوه بعد احتكامهم لعقولهم الخاوية وقلوبهم المريضة ولهم في ذلك أسوة في معلمهم الأول إبليس لعنة الله عليه لما أبى الامتثال لأمر ذي الإكرام والجلال حسدا من عند نفسه
"
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" (الأعراف : 12(




نرمين كحيلة