السبت، 29 ديسمبر 2012

السخرية للجميع






      لقد انتشرت هذه الأيام موجة من التهكم والسخرية والاستهزاء بكل القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية حتى تطاولت بعض وسائل الإعلام على علمائنا الأجلاء وشيوخنا الأفاضل .. فكم من مرة نسمع ونقرأ هنا وهناك عبارات استهزاء وهمز ولمز وسخرية بعالم أو داعية وبأسلوب مخزى ومبتذل ومحزن حتى أفردت برامج كاملة ينفق عليها أموالا كثيرة لتسخر من الناس ، وامتهن البعض مهنة الساخر المقلد بدعوى أن ذلك فن ينتقد أوضاع المجتمع وأرى أن هذا ما هوإلا تقليدًا أعمى للغرب ففى إعلامهم ابتدعوا البرامج الساخرة مثل الكاميرا الخفية وغيرها ولكنهم فعلوا ذلك لأنهم لا تحكمهم أخلاق ولا قيم ولا تقاليد ولا دين ولذا فمن العيب كل العيب أن نقلدهم ونسير على دربهم رغم أن ديننا ينهانا عن السخرية بالآخرين.. قال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خير منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون" (الحجرات:11)

     قال الضحاك:نزلت هذه الآية فى وفد بنى تميم ، كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبى صلى لله عليه وسلم مثل عمار وبلال وخباب وصهيب وسلمان وسالم – مولى أبى حذيفة – لما رأوا من رثاثة حالهم ، فأنزل الله تعالى (فى الذين آمنوا منهم):"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم..." أى رجال من رجال ، و"القوم" اسم يختص بجمع المذكر. وروى عن أنس أنها نزلت فى نساء النبى صلى الله عليه وسلم حين عيرن ام سلمة بالقِصَر.
     وعن عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت فى صفية بنت حيى بن أخطب قال لها النساء:يهودية بنت يهوديين.."ولا تلمزوا أنفسكم" أى لا يعب بعضكم بعضا ولا يعتب بعضكم على بعض. "ولا تنابزوا بالألقاب" التنابز:من النبز وهو اللقب وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمى به كأن يقال مثلا:يا أعرج أو يا أعمى.....إلخ.
 
       قال عكرمة:هو قول الرجل لرجل يا فاسق يا منافق يا كافر.وقال الحسن:كان اليهودى والنصرانى يسلم فيقال له بعد إسلامه:يا يهودى يا نصرانى فنهوا عن ذلك. قال عطاء:هو أن تقول لأخيك:يا كلب يا حمار يا خنزير. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال:التنابز بالألقاب:أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهى أن يعير بما سلف من عمله. بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" أى بئس الاسم أن يقال:يا يهودى أو يا فاسق بعد أن آمن وتاب. وقيل معناه أن من فعل ما نهى عنه من اللمز والهمز والنبز فهو فاسق. فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق "ومن لم يتب" (من ذلك) "فأولئك هم الظالمون" يعنى ربنا جل وعلا وصف من يسخر من الناس بأنه فاسق وظالم وتوعده أشد الوعيد إن لم يتب وينتهِ عن ذلك الفعل المشين.

   وعلى  الرغم من أن مبدأ السخرية مرفوض فى الإسلام إلا أنه مسموح للمسم أن يرد السخرية على من سخر منه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان بن ثابت - رضى لله عنه - منبرًا فى المسجد وهو ينشد الشعر ويقول:"إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما ينافح (أى يدافع) عن رسول الله" (رواه أحمد والترمزى) وكان يقول لحسان:"اهجُ (يعنى المشركين) وجبريل معك" (رواه البخارى) وقال له:"اهجُ قريشا ، فإنه أشد عليهم من رشق النبل" (رواه مسلم)

     وقد سخر سيدنا نوح عليه السلام من قومه عندما سخروا منه "ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون" (هود:38) وكم هى آيات السخرية بالمنافقين والكافرين فى القرآن الكريم..ألم يقل -سبحانه – عن الكفار:"إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل" وألم يقل – سبحانه – عن اليهود:"فمثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا" ألم يصف- سبحانه – المنافقين أنهم "يحسبون كل صيحة عليهم" أى أن الخوف والجبن اشتد بهم إلى درجة أنهم يتوهمون أن كل صوت حربا عليهم. ألم نسمع وصفه – سبحانه – لذلك المنتكس"فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" بل إن السخرية هى من وسائل تعذيب الكافر فى جهنم حين يقال له سخرية وتهكما:"ذق إنك أنت العزيز الكريم"ليزداد عذابا إلى عذابه وآلاما إلى آلامه.
  
     وأقولها صراحة لا يوجد رجل يحترم نفسه ودينه يسخر من أحد ولو حتى بغرض المزاح والدليل على ذلك سيدنا موسى عليه السلام حين أمر قومه أن يذبحوا بقرة فقالوا له:أتتخذنا هزوا؟ انظروا ماذا رد عليهم؟ قال لهم: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، أى أن السخرية بالآخرين هى جهل وحمق شديد يستعيذ العاقل منه وينأى بنفسه عنه.
 
   ولنتأمل أسلوب الكفار فى كل زمان ومكان فى معارضة المؤمنين ، لقد لجأوا للسخرية من المؤمنين. " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون   وإذا مروا بهم يتغامزون"  )المطففين:29-30 ) يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي : محتقرين لهم  وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ) أي إذا انقلب ، أي رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فاكهين أي مهما طلبوا وجدوا ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحتقرونهم ويحسدونهم ( وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ) أي لكونهم على غير دينهم قال الله تعالى ( وما أرسلوا عليهم حافظين ) أي وما بعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر من أعمالهم وأقوالهم ولا كلفوا بهم فلِمََ اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم كما قال تعالى ( قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ) المؤمنون 108 - 111 (
     ولهذا قال هاهنا : ( فاليوم ) يعني يوم القيامة  الذين آمنوا من الكفار يضحكون ) أي في مقابلة ما ضحك بهم أولئك ( على الأرائك ينظرون ) أي إلى الله عز وجل في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون ليسوا بضالين بل هم من أولياء الله المقربين ينظرون إلى ربهم في دار كرامته) .

وقوله: هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ؟ أي :هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء.
تأملوا معى قول الكفار والمنافقين فى سورة البقرة:"إنما نحن مستهزئون"أى يستهزئون بالمؤمنين فقد رد الله عليهم قائلا: "الله يستهزئ بهم ويمدهم فى طغيانهم يعمهون" فجزاء استهزائهم بعباد الله أن استهزأ الله بهم.

     قال تعالى: "ويل لكل همزة لمزة" ، توعد الله - جل وعلا - الذين يستهزؤون بالناس بالويل والثبور. والهمزة هم الذين يسخرون من الناس ولو بالإشارة
يرى إنسانا مصابا بعاهة في قدمه، يمشي وهو يعرج فيحاول أن يقلده بطريقة تثير السخرية ، إما بالإشارة وإما بالكلام ، والهمز هو الاستهزاء والسخرية من الناس، علامة عدم الإيمان، لأننا كلنا مخلوقون من إله واحد، فهذه الصفة التي سخرت فيها من إنسان أعرج مثلا، لا عمل له فيها، ولا حول له ولا قوة .. والإنسان لم يصنع نفسه، والحقيقة أنك تسخر من صنع الله، والذي يسخر من خلق الله إنسان غبي لأنه سخر من خلق الله في عيب، ولم يقدر ما تفضل الله به عليه، كما أنه سخر من عيب ولم يفطن إلي أن الحق سبحانه وتعالى قد أعطى ذلك الإنسان خصالا ومميزات ربما لم يعطها له.

    وقد أعطانا الله تعالى حق رد الإساءة بمثلها:"وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (النحل 126) هذه الآيات نزلت بالمدينة في شهداء أحد وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد ، من تبقير البطون ، حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مُثِّلَ به غير حنظلة بن الراهب فإن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك - فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ، ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه ، وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ، ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا ، فإن حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئا من جسده النار فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة ، ونظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله عليك فإنك ما علمت ما كنت إلا فاعلا للخيرات ، وصولا للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى ، أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك " ، فأنزل الله تعالى ": وإن عاقبتم فعاقبوا…. ) الآية . ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) أي : ولئن عفوتم لهو خير للعافين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل نصبر ، وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه .
  
     صحيح أن التسامح مطلوب فى الإسلام لكنه لو أدى لاستهانة الجانى وتطاوله فهو خطأ كبير لذلك خيرنا الله فى الآية بين الثأر والعفو حسبما يقتضيه الموقف حتى لا يستهان بالمؤمن ويستضعفه خصومه مثلما أراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يعفو عن يهود بنى قريظة ولكن سعد بن معاذ نصحه بأن يقتل رجالهم ويسبى أطفالهم ونسائهم ويقتسم أموالهم ونزلت الآية مؤيدة لحكم سعد ورافضة للعفو عنهم لأن الله يعلم بحكمته أن النبى صلى الله عليه وسلم لو كان قد عفا عنهم لتجرأ اليهود أكثر على المسلمين ولاستهانوا بهم واستضعفوهم ولكرروا مؤامراتهم عليهم. ومثلما امر النبى صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف لأنه كان يهجو النبى وأصحابه ويحرض على قتاله صلى الله عليه وسلم.. روى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال من لكعب بن الأشرف فإنه قد أذى الله ورسوله , فقام محمد بن مسلمة فقال يا رسول الله أتحب أن أقتله , قال نعم فقتلوه ثم أتوا النبي فأخبروه.
     ولذا فقد قال تعالى:"فمن اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" وقال أيضا في سورة المائدة: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "(المائدة:45)
ومعنى الآية أن النفس تقتل بالنفس وأن العين تفقأ بالعين ويقطع الأنف بالأنف وتنزع السن بالسن وأن تصلم الأذن بالأذن وتقتص الجراح بالجراح.

"لا تردوا الإساءة بالاساءة بل أحبوا اعدائكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا الى مبغضيكم وصلوا لاجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم "

     فديننا يحفظ للإنسان كرامته ولا يرضى بذله لمن أهانه وسخر منه.
   
     فلتتقوا الله يا من تسخرون من الناس واعلموا أنكم محاسبون على ماتلفظون.

نرمين كحيلة