السبت، 12 يناير 2013

ونزعنا ما فى صدورهم من غل




     تأملت تلك الآية الرائعة فوجدتها تتحدث عن أسوأ شئ ممكن أن يعكر صفو الحياة وهو التباغض والغل والحقد والحسد ، وإذا كان الملاحدة يسخرون من ديننا لأنه يصف الجنة بأن فيها طعام وشراب وحور عين وهذا - فى رأيهم - موجود فى الدنيا ولا حاجة لنا به الآخرة فإن الجنة بها شئ طالما حلم به المفكرون والفلاسفة وأسموه المدينة الفاضلة وهى مدينة خالية من الكراهية والحسد.. قال الله تعالى: "إن المتقين في جنات وعيون ، ادخلوها بسلام آمنين ، ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ، لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين"(الحجر:47) ...بعد دخول الجنة مباشرة ينزع الله الغل من قلوبهم حتى يستمتعوا بملذات الجنة.

     قال ابن عباس : أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان ، فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل ، ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم ، وتجري عليهم نضرة النعيم  ونحوه ، والغل : الحقد والعداوة المتغلغلة فى القلب.

"   إخوانا على سرر متقابلين"
أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا وتحاببا . وقيل : الأسِرَّة تدور كيفما شاءوا ، فلا يرى أحد قفا أحد . وسُرر جمع سرير . مثل جديد وجدد . قال ابن عباس : على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر  ، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة .
لا يمسهم فيها نصب
أي إعياء وتعب .

وما هم منها بمخرجين
دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول ، وأن أهلها فيها باقون .
"وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ" فتبقى قلوبهم سالمة من كل دغل  وحسد متصافية متحابة { إخوانا على سرر متقابلين } دل ذلك على تزاورهم واجتماعهم وحسن أدبهم فيما بينهم في كون كل منهم مقابلا للآخر لا مستدبرا له متكئين على تلك السرر المزينة بالفرش واللؤلؤ وأنواع الجواهر. وقيل : نزع الغل في الجنة ألا يحسد بعضهم بعضا في تفاضل منازلهم.
    وفى تفسير ابن كثير روى القاسم عن أبي أمامة قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن
حتى إِذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل، ثم قرأ : ونزعنا ما في صدورهم من غل


    يحرص الإسلام على تأليف القلوب ، وعلى إضفاء روح المحبة ، وعلى التآخي والاجتماع ، وعلى إصلاح ذات البين كما حرص على حماية صرح الأخوّة .

   وجاء النهي عن أسباب ضعف هذه الأخوة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه . رواه مسلم .

    وقال صلى الله عليه وسلم : لا تباغضوا ، ولا تقاطعوا ، ولا تدابروا ، ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله ، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام . رواه البخاري ومسلم .

    لأن هذه الأشياء مما يتنافى مع أخوة المؤمنين ، ومما يولد العداوة والبغضاء ، ويثير الأحقاد ، ويكون سببا في الشحناء .فهذه الأمور من شأنها أن تُضعف بنيان الأخوة القائم على الإيمان
فجاء النهي عن التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر والتقاطع والبيع على بيع بعض، وجاء النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه، كل ذلك لمراعاة هذه الأخوة القائمة على الإيمان ..قال تعالى:"  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ"

     وجاء النهي عن التقاطع وعن فساد ذات البين
قال عليه الصلاة والسلام : دَبّ إليكم داء الأمم الحسد ، والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم ؟ أفشوا السلام بينكم . رواه الإمام أحمد والترمذي .

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على جمع القلوب ، وعلى إصلاح ذات البين .فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة ، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : اذهبوا بنا نصلح بينهم . رواه البخاري .

    ولما تم نعيم أهل الجنة نزع الله ما في صدورهم من أسباب العداوة والبغضاء ثم أثبت لهم الأخوة فقال : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ.

    ونلاحظ أن أول شئ فعله النبى صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لأنه لو لم يفعل ذلك لتقاتلوا نظرا لاختلاف طباع المهاجرين عن الأنصار فقد خرج المهاجرون من مكة المكرمة، ليصلوا إلى أرضٍ جديدة وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، منها مثلا الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئة أخرى؛ مما أدَّى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمّى وغيرها.
   وكان من الممكن أن يعتبر أهل المدينة المهاجرين قادمين لاحتلال أرضهم والاستيلاء على خيراتهم فكان من الضرورى أن تحدث المؤاخاة بينهم حتى يستطيعوا التعايش مع بعضهم البعض وبدون تلك الأخوة والمحبة ماكان النبى صلى الله عليه وسلم ليستطيع بناء الدولة الإسلامية لأنه لا يمكن أن تقوم حضارة وأهلها متباغضون.
    كل هذه الظروف تجمَّعت لتشكِّل ضغوطًا نفسية كبيرة، كان لا بدَّ معها من حلولٍ عمليَّة سريعة تعوِّضهم ما فقدوه في غربتهم، وتعيد لهم كرامتهم، وتُشعرهم بأنهم لن يكونوا عبئًا على إخوانهم الأنصار.
  حتى أنهم كانوا يتوارثون وكانوا يقتسمون الأموال والديار بل وحتى الزوجات أى أنه لو كان لأحدهم زوجتان يطلق إحداهما حتى يتزوجها أخيه.
     يقول تعالى:"وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" (الأنفال:63) وقد اثبت بذلك أن أخوة الدين أقوى من أخوة الدم.
    فنسأل الله تعالى أن يؤلف بين قلوب المصريين وأن تحدث المؤاخاة بين الليبرالين والإخوان والسلفيين واليساريين والعلمانيين وباقى فصائل الشعب المصرى وأن ينزع ما فى قلوبهم من غل حتى نستطيع النهوض ببلدنا.

نرمين كحيلة