لنا فى قصة موسى عليه السلام مع الخضردروسا عظيمة مستفادة فنلاحظ أن موسى عليه السلام كان يعتقد اعتقادًا راسخا أن الخضر مخطئ حين قتل الغلام وخرق السفينة وأقام الجدار للغلامين اليتيمين وبناءً عليه كان سيدنا موسى عليه السلام يرى نفسه على حق وغيره (الخضر) على باطل ولذلك فقد قال له حين رآه يخرق السفينة "أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرًا"(الكهف 71) أى شيئا عظيمًا أى أنه أنكر عليه فعله وبالتأكيد كان موسى عليه السلام يقولها بغضب وانفعال رغم أننا لا نشك أنه عليه السلام فعل ذلك من باب الشهامة والمروءة والحرص على الفقراء فهو يريد لهم الخير ولا يريد لهم الغرق لكن أسلوبه فى الاعتراض خاصة وأنه لا يعرف الحكمة من وراء ذلك دفعه إلى إنكار ما رآه مما دفع الخضر إلى معاتبة موسى وقال له:ألم أقل لك أنك لن تستطيع معى صبرا"(الكهف 72) فخجل موسى من نفسه لأنه تسرع ولم يصبر كما وعد واعتذر وقال:"لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا"
وبعد ذلك بقليل وجد موسى الخضر يقتل ولدا صغيرا بدون ذنب فقال له بنفس نبرة الانفعال والغيظ والضيق:" أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً" (الكهف:74) "لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرا".ً هذه العبارة أشد من العبارة الأولى. في الأولى قال:{ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمرا }، ولكن هنا قال: { نُكْراً } أي منكراً عظيماً، والفرق بين هذا وهذا، أن خرق السفينة قد يكون به الغرق وقد لا يكون وهذا هو الذي حدث، لم تغرق السفينة، أما قتل النفس فهو منكر حادث ما فيه احتمال.
"قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً" (الكهف:75)
قوله تعالى: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ } هنا فيها لوم أشد على موسى، في الأولى قال: { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ } وفي الثانية قال: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ } يعني كأنك لم تفهم ولن تفهم، ولذلك كان الناس يفرقون بين الجملتين، فلو أنك كلمت شخصاً بشيء وخالفك فتقول في الأول: "ألم أقل إنك"، وفي الثاني تقول: "ألم أقل لك" يعني أن الخطاب ورد عليك وروداً لا خفاء فيه، ومع ذلك خالفت، فكان قول الخضر لموسى في الثانية أشد: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ }، فقال له موسى لما رأى أنه لا عذر له:
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) (الكهف:76)
قوله تعالى: { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي } أي امنعني من صحبتك، وفي قول موسى:
(فَلا تُصَاحِبْنِي) إشارة إلى أنه - عليه الصلاة والسلام - يرى أنه أعلى منه منْزِلة وإلاَّ لقال: "إن سألتك عن شيء بعدها فلا أصاحبك".(بعد أن كان يظن سابقا أنه أعلم أهل الأرض بصفته نبى فقد تعلم الدرس أى أنه لا يستخف ولا يستهين بأحد حتى لو كان أقل منه)
" قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً " يعني أنك وصلت إلى حال تُعذَر فيها، لأنه أنكر عليه مرتين مع أن موسى عليه السلام التزم إلاَّ يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً.
"فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً") الكهف:77) هنا تعجب موسى عليه السلام أن الخضر رغم أن القوم رفضوا ان يضيفوهما وبخلوا بخلا شديدا إلا أنه ساعدهم وبنى لهم الجدار الذى كان آيلا للسقوط دون أن يأخذ أجرا لقاء ذلك.
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:78)
قوله تعالى: (قَالَ) أي قال الخضر لموسى: { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أي انتهى ما بيني وبينك فلا صحبة. { سَأُنَبِّئُكَ } أي سأخبرك عن قُربٍ قبل المفارقة { بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً }، وإنما قلنا: "سأخبرك عن قرب" لأن السين تدل على القرب بخلاف سوف، وهي أيضاً تفيد مع القرب التحقيق.
(بِتَأْوِيل ) أي بتفسيره وبيان وجهه.
إذن نستطيع أن نستخلص من هذه القصة أن موسى عليه السلام فقد فرصة عظيمة منحها الله له وهى فرصة أن يتعلم من هذا الرجل الصالح عن طريق مصاحبته وذلك لأنه اتهمه بأنه مخطئ ونستطيع أن نستنتج من كلام سيدنا موسى أنه ندم لأنه ضيع من يده تلك الفرصة بتسرعه فى الحكم على الآخرين بأن رأيهم أو تصرفهم خاطئ. قبل أن يعرف الحكمة من وراء ذلك..وهذا ما نفعله نحن الآن حيث يتهم بعضنا بعضا بالجهل وعدم الفهم قبل أن نستمع للرأى الاخر فربما يكون صحيحا ونضيع على أنفسنا فرصة الاستفادة من آراء الآخرين.
وقد سمح النبى صلى الله عله وسلم نفسه بالاختلاف حين كانوا فى إحدى الغزوات مع يهود بنى قريظة فقال لهم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة" ففهم بعض المسلمين قول النبى عليه السلام أنه يقصد فعلا المعنى الحرفى للكلمة بأنه يجب أن يصلى العصر فى بنى قريظة فأرجأ الصلاة حتى ذهب إلى هناك ثم صلى ، أما البعض الآخر ففهم كلام النبى صلى الله عليه وسلم أنه مجازى لا يقصد المعنى الحرفى له ولكنه يقصد السرعة فى الذهاب فصلوا قبل أن يرحلوا ثم أسرعوا بعد الصلاة إلى هناك.. وعندما قابلوا الرسول عليه السلام حكوا له ما حدث فأقر المجموعتين ولم يعترض على أحد ولم يقل لأحد أنت مخطئ أنت لم تفهم كلامى أو كيف لم تنفذ أوامرى ؟ وهذا يدل على جواز تعدد الفهم والاختلاف طالما فى الخير.. فلا يصح لمن يقول أن النقاب أو اللحية فرض أن يفرض رأيه وفهمه على الآخر والعكس لأن مشيئة الله الاختلاف ألس الله بقادر على يجعل النبى صلى الله عليه وسلم يقول إن النقاب أو اللحية فرض بصريح العبارة ؟ وإلا فلماذا ظهرت المذاهب المتعددة من شافعى وحنبلى وحنفى ومالكى وظاهرى وغيرها كثير ؟ لو كان الحق له وجه واحد لكان هناك مذهب واحد فقط ..ولننظر مثلا لاختلاف الليل والنهار واختلاف الفصول الاربعة بل إن أصابعنا نفسها مختلفة وألواننا وجنسياتنا وألسنتنا"إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ".."واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لآيات للعالمين"، "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" والحكمة تقول:"لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع" يعنى الاختلاف هو إرادة الله ومشيئته أليس الله قادرا على أن يجعل الناس كلهم يفكرون بنفس الطريقة ويفهمون نفس الفهم؟ لكنه لايريد ذلك هو لا يريد ماءً راكدا بل يريد ماءً متجددا ، فالاختلاف فيه إثراء للحياة وتنوع جميل.