السبت، 29 ديسمبر 2012

السخرية للجميع






      لقد انتشرت هذه الأيام موجة من التهكم والسخرية والاستهزاء بكل القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية حتى تطاولت بعض وسائل الإعلام على علمائنا الأجلاء وشيوخنا الأفاضل .. فكم من مرة نسمع ونقرأ هنا وهناك عبارات استهزاء وهمز ولمز وسخرية بعالم أو داعية وبأسلوب مخزى ومبتذل ومحزن حتى أفردت برامج كاملة ينفق عليها أموالا كثيرة لتسخر من الناس ، وامتهن البعض مهنة الساخر المقلد بدعوى أن ذلك فن ينتقد أوضاع المجتمع وأرى أن هذا ما هوإلا تقليدًا أعمى للغرب ففى إعلامهم ابتدعوا البرامج الساخرة مثل الكاميرا الخفية وغيرها ولكنهم فعلوا ذلك لأنهم لا تحكمهم أخلاق ولا قيم ولا تقاليد ولا دين ولذا فمن العيب كل العيب أن نقلدهم ونسير على دربهم رغم أن ديننا ينهانا عن السخرية بالآخرين.. قال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خير منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون" (الحجرات:11)

     قال الضحاك:نزلت هذه الآية فى وفد بنى تميم ، كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبى صلى لله عليه وسلم مثل عمار وبلال وخباب وصهيب وسلمان وسالم – مولى أبى حذيفة – لما رأوا من رثاثة حالهم ، فأنزل الله تعالى (فى الذين آمنوا منهم):"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم..." أى رجال من رجال ، و"القوم" اسم يختص بجمع المذكر. وروى عن أنس أنها نزلت فى نساء النبى صلى الله عليه وسلم حين عيرن ام سلمة بالقِصَر.
     وعن عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت فى صفية بنت حيى بن أخطب قال لها النساء:يهودية بنت يهوديين.."ولا تلمزوا أنفسكم" أى لا يعب بعضكم بعضا ولا يعتب بعضكم على بعض. "ولا تنابزوا بالألقاب" التنابز:من النبز وهو اللقب وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمى به كأن يقال مثلا:يا أعرج أو يا أعمى.....إلخ.
 
       قال عكرمة:هو قول الرجل لرجل يا فاسق يا منافق يا كافر.وقال الحسن:كان اليهودى والنصرانى يسلم فيقال له بعد إسلامه:يا يهودى يا نصرانى فنهوا عن ذلك. قال عطاء:هو أن تقول لأخيك:يا كلب يا حمار يا خنزير. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال:التنابز بالألقاب:أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهى أن يعير بما سلف من عمله. بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" أى بئس الاسم أن يقال:يا يهودى أو يا فاسق بعد أن آمن وتاب. وقيل معناه أن من فعل ما نهى عنه من اللمز والهمز والنبز فهو فاسق. فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق "ومن لم يتب" (من ذلك) "فأولئك هم الظالمون" يعنى ربنا جل وعلا وصف من يسخر من الناس بأنه فاسق وظالم وتوعده أشد الوعيد إن لم يتب وينتهِ عن ذلك الفعل المشين.

   وعلى  الرغم من أن مبدأ السخرية مرفوض فى الإسلام إلا أنه مسموح للمسم أن يرد السخرية على من سخر منه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان بن ثابت - رضى لله عنه - منبرًا فى المسجد وهو ينشد الشعر ويقول:"إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما ينافح (أى يدافع) عن رسول الله" (رواه أحمد والترمزى) وكان يقول لحسان:"اهجُ (يعنى المشركين) وجبريل معك" (رواه البخارى) وقال له:"اهجُ قريشا ، فإنه أشد عليهم من رشق النبل" (رواه مسلم)

     وقد سخر سيدنا نوح عليه السلام من قومه عندما سخروا منه "ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون" (هود:38) وكم هى آيات السخرية بالمنافقين والكافرين فى القرآن الكريم..ألم يقل -سبحانه – عن الكفار:"إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل" وألم يقل – سبحانه – عن اليهود:"فمثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا" ألم يصف- سبحانه – المنافقين أنهم "يحسبون كل صيحة عليهم" أى أن الخوف والجبن اشتد بهم إلى درجة أنهم يتوهمون أن كل صوت حربا عليهم. ألم نسمع وصفه – سبحانه – لذلك المنتكس"فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" بل إن السخرية هى من وسائل تعذيب الكافر فى جهنم حين يقال له سخرية وتهكما:"ذق إنك أنت العزيز الكريم"ليزداد عذابا إلى عذابه وآلاما إلى آلامه.
  
     وأقولها صراحة لا يوجد رجل يحترم نفسه ودينه يسخر من أحد ولو حتى بغرض المزاح والدليل على ذلك سيدنا موسى عليه السلام حين أمر قومه أن يذبحوا بقرة فقالوا له:أتتخذنا هزوا؟ انظروا ماذا رد عليهم؟ قال لهم: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، أى أن السخرية بالآخرين هى جهل وحمق شديد يستعيذ العاقل منه وينأى بنفسه عنه.
 
   ولنتأمل أسلوب الكفار فى كل زمان ومكان فى معارضة المؤمنين ، لقد لجأوا للسخرية من المؤمنين. " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون   وإذا مروا بهم يتغامزون"  )المطففين:29-30 ) يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي : محتقرين لهم  وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ) أي إذا انقلب ، أي رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فاكهين أي مهما طلبوا وجدوا ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحتقرونهم ويحسدونهم ( وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ) أي لكونهم على غير دينهم قال الله تعالى ( وما أرسلوا عليهم حافظين ) أي وما بعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر من أعمالهم وأقوالهم ولا كلفوا بهم فلِمََ اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم كما قال تعالى ( قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ) المؤمنون 108 - 111 (
     ولهذا قال هاهنا : ( فاليوم ) يعني يوم القيامة  الذين آمنوا من الكفار يضحكون ) أي في مقابلة ما ضحك بهم أولئك ( على الأرائك ينظرون ) أي إلى الله عز وجل في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون ليسوا بضالين بل هم من أولياء الله المقربين ينظرون إلى ربهم في دار كرامته) .

وقوله: هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ؟ أي :هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء.
تأملوا معى قول الكفار والمنافقين فى سورة البقرة:"إنما نحن مستهزئون"أى يستهزئون بالمؤمنين فقد رد الله عليهم قائلا: "الله يستهزئ بهم ويمدهم فى طغيانهم يعمهون" فجزاء استهزائهم بعباد الله أن استهزأ الله بهم.

     قال تعالى: "ويل لكل همزة لمزة" ، توعد الله - جل وعلا - الذين يستهزؤون بالناس بالويل والثبور. والهمزة هم الذين يسخرون من الناس ولو بالإشارة
يرى إنسانا مصابا بعاهة في قدمه، يمشي وهو يعرج فيحاول أن يقلده بطريقة تثير السخرية ، إما بالإشارة وإما بالكلام ، والهمز هو الاستهزاء والسخرية من الناس، علامة عدم الإيمان، لأننا كلنا مخلوقون من إله واحد، فهذه الصفة التي سخرت فيها من إنسان أعرج مثلا، لا عمل له فيها، ولا حول له ولا قوة .. والإنسان لم يصنع نفسه، والحقيقة أنك تسخر من صنع الله، والذي يسخر من خلق الله إنسان غبي لأنه سخر من خلق الله في عيب، ولم يقدر ما تفضل الله به عليه، كما أنه سخر من عيب ولم يفطن إلي أن الحق سبحانه وتعالى قد أعطى ذلك الإنسان خصالا ومميزات ربما لم يعطها له.

    وقد أعطانا الله تعالى حق رد الإساءة بمثلها:"وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (النحل 126) هذه الآيات نزلت بالمدينة في شهداء أحد وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد ، من تبقير البطون ، حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مُثِّلَ به غير حنظلة بن الراهب فإن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك - فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ، ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه ، وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ، ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا ، فإن حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئا من جسده النار فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة ، ونظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله عليك فإنك ما علمت ما كنت إلا فاعلا للخيرات ، وصولا للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى ، أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك " ، فأنزل الله تعالى ": وإن عاقبتم فعاقبوا…. ) الآية . ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) أي : ولئن عفوتم لهو خير للعافين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل نصبر ، وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه .
  
     صحيح أن التسامح مطلوب فى الإسلام لكنه لو أدى لاستهانة الجانى وتطاوله فهو خطأ كبير لذلك خيرنا الله فى الآية بين الثأر والعفو حسبما يقتضيه الموقف حتى لا يستهان بالمؤمن ويستضعفه خصومه مثلما أراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يعفو عن يهود بنى قريظة ولكن سعد بن معاذ نصحه بأن يقتل رجالهم ويسبى أطفالهم ونسائهم ويقتسم أموالهم ونزلت الآية مؤيدة لحكم سعد ورافضة للعفو عنهم لأن الله يعلم بحكمته أن النبى صلى الله عليه وسلم لو كان قد عفا عنهم لتجرأ اليهود أكثر على المسلمين ولاستهانوا بهم واستضعفوهم ولكرروا مؤامراتهم عليهم. ومثلما امر النبى صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف لأنه كان يهجو النبى وأصحابه ويحرض على قتاله صلى الله عليه وسلم.. روى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال من لكعب بن الأشرف فإنه قد أذى الله ورسوله , فقام محمد بن مسلمة فقال يا رسول الله أتحب أن أقتله , قال نعم فقتلوه ثم أتوا النبي فأخبروه.
     ولذا فقد قال تعالى:"فمن اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" وقال أيضا في سورة المائدة: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "(المائدة:45)
ومعنى الآية أن النفس تقتل بالنفس وأن العين تفقأ بالعين ويقطع الأنف بالأنف وتنزع السن بالسن وأن تصلم الأذن بالأذن وتقتص الجراح بالجراح.

"لا تردوا الإساءة بالاساءة بل أحبوا اعدائكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا الى مبغضيكم وصلوا لاجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم "

     فديننا يحفظ للإنسان كرامته ولا يرضى بذله لمن أهانه وسخر منه.
   
     فلتتقوا الله يا من تسخرون من الناس واعلموا أنكم محاسبون على ماتلفظون.

نرمين كحيلة





الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

ثمانون مليون رئيس



     يقول المثل الشهير:"المركب التى لها رئيسين تغرق" ، وهذا ما نحن فيه الآن ، كل فرد من أفراد الشعب المصرى يريد أن ينصب من نفسه رئيسا ويدعى أن الحق معه وأنه وحده الذى يملك الحقيقة المطلقة والرأى الصائب الصحيح  فأصبح لدينا 80 مليون رئيسًا يحكمون مصر.
   "يسقط الرئيس القادم ، لا نحتاج لرئيس" سمعتها يوما من أفواه بعض الناس يعلنونها صريحة مدوية،.. أفزعتنى الكلمة وخشيت من عواقبها الوخيمة لكنها لم تدهشنى إذ أن بقاء المصريين أكثر من عام دون رئيس يحكمهم جعل الفوضى تعم والبلطجة والانفلات الأمنى وكل أشكال العنف والجريمة تنتشر ، واستمرأ المصريون حياة الغوغائية والهمجية ، وأصبحت المعارضة غاية وليست وسيلة على مبدأ خالف تعرف ، وقلتها صراحة فى مقال سابق أننا بحاجة لرئيس فورا ينتشلنا من حالة الفوضى هذه وجاءت النتيجة كما توقعت.
    المشكلة أنه اختلط الحابل بالنابل ولم تعد الناس تستطيع التفريق بين طاعة الحاكم الصالح وبين الثورة على الحاكم الظالم.. تعالوا أولا نشرح معنى كلمة رئيس:جاءت جماعة إلى الإمام أبى حنيفة يعترضون لأنه قال فى مذهبه أن الإمام فى الصلاة قراءته هى قراءة للمأمومين وأنه ينوب عنهم فى ذلك فقال لهم: لا أستطيع أن أناقشكم جميعا فى تلك المسألة فلتختاروا من بينكم رجلا تفوضونه للتحدث معى نيابة عنكم ، فاختاروا واحدًا ، فقال لهم: هل تقولون ما يقول؟ وتفعلون ما يفعل؟ أى هل كلامه ملزم لكم كأنكم جميعا قلتموه؟ فقالوا نعم. فقال: كذلك الإمام فى الصلاة قراءته قراءة للمأمومين فأفحمهم. ونفهم من كلام الإمام أبى حنيفة أنه طالما اختار الناس شخصًا من بينهم ليحكمهم فوجبت عليهم طاعته.
      عن ابن عمر رضى الله عنه قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم:"السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع  ولا طاعة" يعنى حتى لو أمرنا الحاكم بشئ نكرهه (كالإعلان الدستورى مثلا الذى لا يعجب البعض) فيجب علينا طاعته ، وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه:"بايعنا رسول الله صلي الله عليه وسلم  على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وعثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" وإن من طاعة ولاة الأمور التي أمر الله بها أن يتمشى المؤمن على أنظمة حكومته المرسومة إذا لم تخالف الشريعة فمن تمشى على ذلك كان مطيعا لله ورسوله ومُثابًا على عمله ومن خالف ذلك كان عاصيًا لله ولرسوله وآثما  لأن الله تعالى أمرنا بطاعة ولاة الأمور: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".(النساء:59)
      وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعصَ الأمير فقد عصاني" . وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : "إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف" . وعند البخاري : ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة .

    ولنرى فى غزوة أحد حين عصى المسلمون قائدهم وهو النبى صلى الله عليه وسلم فانهزموا من بعد نصرهم رغم أن فيهم النبى لكى يلقننا الله درسًا وهو أننا إذا لم نطع قائدنا سننهزم.

إذن طاعة أولي الأمر هي من الواجبات في الدين على المؤمنين .

     وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏"‏‏ قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره :

"نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبينًا أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضًا في مواضع أخر، كقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏، ونحوها من الآيات، وقوله في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏ أي قوتكم‏.‏

   وقال بعض العلماء‏:‏ نصركم‏.‏ كما تقول العرب الريح لفلان إذا كان غالبًا، ومنه قوله‏:‏ إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكون"
    ما نحن فيه الآن من فشل ليس سببه الدكتور مرسى ولا الإعلان الدستورى ولا أى رئيس سوف يأتى بعده ولكن سببه تنازعنا وتفرقنا وتشرذمنا.
    تعالوا نتصور كيف يكون حال المجتمع لو لم يسمع ويطيع ، سوف يتحول إلى سوق وإلى غابة ليس لها حاكم.
   هل أمرنا الرئيس مرسى بمعصية؟  أليس هو من اخترناه بإرادتنا الحرة وجاء إلى سدة الحكم بانتخابات حرة نزيهة؟ إذن فالثورة ضده قبل أن يكمل مدته هى الحماقة بعينها ، لا بد من إتاحة الفرصة كاملة أربع سنين ثم نحاسبه بعدها ونرى هل أخطا أم أصاب؟ فلا يعقل أن نعارض كل قرارته ونهاجمه.

   لا أوافق على أن يستجيب الرئيس لمطالب خاسرى انتخابات الرئاسة ممن يريدون التشفى منه والثأر الشخصى لكرامتهم المجروحة بعد أن لفظهم الشعب ونحاهم حتى لا يكون الرئيس ألعوبة فى أيديهم ، فإرضاء الناس غاية لا تدرك ، وأقول للدكتور مرسى: سِر فى طريقك وأعرض عن الجاهلين ، فالناس كانت سببًا فى دخول جحا وابنه مستشفى المجانين حين حاول جحا إرضاءهم.

   قال الرئيس السابق محمد نجيب:فى كتابه"كنت رئيسا لمصر" أن الملك فاروق قال له حين خرج من مصر:"حكم مصر صعب" ولم يفهم وقتها معنى هذه الجملة إلى أن فهمها حين تولى حكم مصر ثم أزاحه الضباط الأحرار لينفردوا هم بالحكم..

فلا بد أن نعلم أن حكم مصر صعب فعلا وليس سهًلا على أى شخص -  مهما كان قويًا او مؤهلا للقيادة - أن يسوس الشعب المصرى خاصة فى ظل هذه الظروف العصيبة وخراب لمدة 60 سنة.

   كنت أتحدث ذات يوم عن أداء الرئيس مرسى فقال لى أحد الجالسين: "نحن شعب لو أن عمر بن الخطاب أو أبو بكر الصديق حكمنا فلن يعجبنا" فقلت له:صدقت.

   فيا من تريدون أن تشعلوا نيران الفتنة ارحمونا يرحمكم الله وكفاكم تخريبا وتحريضا واتجهوا للبناء بدلا من أن تكرسوا كل جهودكم للهدم ، اتقوا الله فى مصر واصبروا ولا تتعجلوا قطف الثمار قبل أوانها.

نرمين كحيلة

 

الأحد، 14 أكتوبر 2012

ثقافة الثورة



     من الملاحظ منذ قيام الثورة وحتى الآن أن الشعب المصرى اكتسب ثقافة الثورة ليس على الفساد فقط ولكن على كل القيم والمبادئ والأعراف وكأننا لما أطحنا بالحاكم الظالم لم يعد لنا كبير نحترمه أو قانون نهابه أو حتى دين نلتزم به فقد اشتكى لى كثير من الناس أن فئة البوابين والخدم والعمال أصبحوا يتجرؤون علي من يعملون لديهم ويتطاولون عليهم وكذلك المرؤوس يتطاول على رئيسه فى العمل بل إن الابن ليتطاول على أبيه وأمه فأصبحت الثورة والاعتصامات هى القاعدة أما الهدوء والسلام فهو الاستثناء ؛ وقد فقدنا صفة من أهم صفاتنا كمصريين ، اشتهرنا بها منذ القدم ألا وهى صفة احترام الكبير..بل إننا نحن الذين علمنا الدنيا كيف  تحترم الكبير ، انظر إلى بتاح حتب وهو يعظ ابنه يقول له:"إذا وجدت رجلا يتكلم وكان أكبر منك وأشد حكمة، فاصغ إليه واحنِ ظهرك أمامه (دليلا على الطاعة والاحترام) وهناك نصائح أخرى من حكماء آخرين تأمر الصغير إذا كان جالسا أن يقوم للكبير ليجلسه مكانه.

    يقول النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الشريف:"ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير ويعرف لعالمنا حقه " فهو قد نفى عن هذا الانسان الانتماء الى الإسلام بقوله "ليس منا" مما يؤكد على عظم هذ العمل.
  
    إن مدلول كلمة الكبير الواردة فى الحديث الشريف مدلول واسع لا يقتصر على كبير السن. ومن معانى الكبير إمام عالم أى من كان من أهل السلطة إذا كان عادلا يسعى لخدمة شعبه فهذا الإنسان يجب أن يُحترم ويُقَدَّر.
ويقول أيضا الحديث الشريف:"ما أكرم شاب شيخ لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه" ويقول أيضا: إن من إجلال الله إكرام ذا الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالى فيه وأكرام ذى السلطان المقسط.
ولا يبالغ الإنسان إذا اعتبر أن مقياس انضباط الأمة الاخلاقى هو توقير الكبار.

يقول الأستاذ:محمد السيسى: قيمة احترام الكبير من القيم الإسلامية العظيمة التي يتعبد المسلم بها إلى الله عز وجل، وهي ليست مجرد تقاليد صارمة، أو إجراءات حزم عسكري، بل سلوكيات راقية نؤديها عن طيب خاطر، ورضاء نفس، والتماس أجر، وابتغاء ثواب.

   وهناك آداب عامة بحق الكبيرأن توقره وتحترمه وتجله وتضعه في مكانة كبيرة تليق بهأن تتجنب المزاح غير اللائق معه.أن تتجنب كل السلوكيات التي تغضبهأن تنهض من مكانك وتقوم لاستقباله عند قدومهأن تحرص على عدم الدخول قبله.أن تجلسه في أفضل مكانأن تتجنب الجلوس في المكان المعد لتكرمته إلا بإذنه.أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحيةأن تتجنب الجلوس في مكان أعلى منهأن تتجنب الجلوس أثناء وقوفه إلا بموافقته.أن تتجنب مد  رجليك أمامه، وألا تضع رجلاً على رجل بحضرتهأن تتجنب النوم أو الاضطجاع بحضرته إلا بإذنهألا تشير عنده بيدك، وألا تغمز بعينك في حضرتهأن تحرص على عدم الخروج من مجلسه إلا بإذنه.
أما الكبير فى مجلس العلم (أى المعلم) فيجب عدم إحداث شغب أو ضجيج في مجلسه، يقول الإمام الشافعي: "كنت أصفح الورقة بين يدي الإمام مالك صفحًا رفيقًا له؛ لئلا يسمع وقعها"، وقال الربيع - تلميذ الشافعي - : "واللّه ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر"، وكان هذا احترامًا وتوقيرًا وتبجيلاً للأستاذ المعلم.

ومن صور احترام الكبير أثناء الحديث والحوارأن تخاطبه بلطف وأدبألا تخاطبه باسمه المجرد، بل بلقب من ألقابه: (الأستاذالدكتور- المهندس- أستاذنا الفاضل- معلمنا الجليل- شيخنا المحترم- عمي العزيز – حضرتك - فضيلتك .. أن تخفض صوتك عند التحدث بحضرتهألا تضع يدك في جيبك أثناء التحدث معهأن تحرص على عدم مقاطعته أثناء كلامه، وألا تدِر له ظهركألا تطلب منه بطريقة الأمر، بل تستأذن منه ما تريده بأسلوب مهذب.

ومن صور احترام الكبير في المواصلات:أن تحرص على المسارعة بفتح باب السيارة له عند الركوب، وكذلك عند النزول .. دخل زيد بن ثابت على جنازة، فقربوا إليه دابة ليركبها، فجاء عبد الله بن عباس فأخذ بزمام الدابة، فقال زيد بن ثابت له: خلِّ عن الدابة يا ابن عم رسول الله ، فقال عبد الله بن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل مع العلماء، فقبَّل زيد يده، وقالهكذا أمرنا أن نفعل مع آل بيت نبينا- صلى الله عليه وسلم.

    إن الاحترام قيمة رائعة تجعل للحياة روحًا وقيمةً ونظامًا راقيًا، وهذه القيمة كطبيعة كل القيم يجب أن تكون ثابتةً ومستقرةً ودائمةً، ولا تتغير بتغير الزمن أو الظروف والأحوال، بل يجب أن يكون الالتزام بها سلوكًا طبيعيًّا، يحرص الجميع عليه برضاء نفس وطيب خاطر وبنية التعبد لله تعالى؛ فتكون النتيجة رقي السلوك وعظم الأجر.

    ونستطيع أن نرى صور من احترام النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه فمثلا احترامه لأبى سفيان (وهو سيد قومه وكان يحب الفخر) حين قال عند فتح مكة:من دخل دار أبى سفيان فهو آمن.
    وكان يقول :"أنزلوا الناس منازلهم"جاء هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم- عند أبي داود وأشار إليه مسلم في مقدمة كتابه، لكن ذكره بالمعنى بقوله: إن عائشة قالت:  أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن ننزل الناس منازلهم  وفي القصة أن عائشة - رضي الله عنها- جاءها مسكين طواف فأعطته كسرة تمر ومشى، ثم جاءها رجل له هيئة فأجلسته وأعطته طعاما فأكل حتى شبع، فأنكروا ذلك عليها: الأول أعطيتيه تمرات في يده، والثاني أجلستيه وقدمتِ له هذا الطعام إلى أن شبع, فقالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال:  أنزلوا الناس منازلهم  يعني أن هذا له منزلته وهذا له منزلته.
  
    وهل من كلام أبلغ من أن النبى صلى الله عليه وسلم أرسل كتابا إلى قيصر قال فيه:"من محمد بن عبد الله إلى عظيم الروم" هل هو عند رسول الله عظيم؟ هذه كياسة وسياسة وذكاء ودهاء فالإنسان الذى له منصب نحترمه سواء أكان يشغل منصبا إداريا أوعلميا أو دينيا نحترمه.
   وقد علمنا الله عز وجل أن نحترم نبينا حين نخاطبه فنهي المؤمنين أن يخاطبوه -صلى الله عليه وآله وسلم - بإسمه : "لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا"ً ) النور:63)


    كان العباس بن عبد المطلب هو عم النبى صلى الله عليه وسلم وأكبر منه سنا فسئل ذات يوم:أيكما أكبر أنت أم رسول الله فقال:هو أكبر منى وأنا ولدت قبله. وهذا من باب احترام العباس لابن أخيه لأنه نبى.
أما عن احترام المحكومين للحاكم فيقول دكتور راغب السرجانى: كانت العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الحضارة الإسلامية تقوم على الاحترام المتبادل، فلم تكن شبيهة بعلاقات ملوك الروم والفرس مع رعيتهم، والتي كانت تقوم على القهر والاستبداد، وتقسيم أفراد مجتمعاتهم إلى طبقات متفاوتة. كان رسول الله يسمع لأصحابه، وينزل على رأيهم إذا ثبت صحة هذا الرأي؛ فالنبي في غزوة بَدْر قد نزل هو وأصحابه في أقرب مكان من ماء قرب بدر، لكن الصحابي الجليل الحباب بن المنذر لم يرضَ بذلك، فقال بأدب جمٍّ لقائد المسلمين وإمامهم : "يا رسول الله ، أرأيتَ هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكَهُ الله، ليس لنا أن نُقَدِّمه ولا نتأخَّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة. قال : "بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْـحَرْبُ وَالْـمَكِيدَةُ". فقال: يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم تغوِّر ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله : "لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ". فنهض رسول الله ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُبِ، فغوِّرت، وبني حوضًا على القليب الذي نزلَ، فمُلِئ ماءً ثم قذفوا فيه الآنية".
   وتعليقا على كلام الدكتور راغب أقول:انظروا إلى أدب الحباب بن المنذر فى مخاطبة النبى فهو لم يقل له:أنت مخطئ ورأيك غير صحيح وأنا أعلم منك ، ولكنه وضح له خطأ قراره بأسلوب مهذب بعد أن تأكد أولا أن هذا ليس وحيا بل هو رأى شخصى ، ولنا أن نتصور أن أمور الدنيا من حروب وغيرها مما لم يوحى إليه فيها احتمال الخطأ فيها وارد حتى من النبى نفسه فما بالك بشخص عادى ليس بنبى؟ لا يجب أن نعلق له المشانق إن أخطأ ولكن نقومه برفق.
 
    فمثلا لم يعترض أحد على أى قرار من قرارات عمر بن الخطاب وخاصة حين عزل خالد بن الوليد ولم يقل له أحد مثلا كيف تعزل سيف الله المسلول وصاحب رسول الله والقائد المنتصر؟ ولكن احترم الجميع رأى حاكمهم حتى خالد نفسه لم يعترض ولم يتهم عمر بالظلم رغم أنه صادر نصف ماله ، فلم يحدث أن اعترض أحد على حاكم من حكام المسلمين إلا إذا خالف شرع الله. والمرة الوحيدة التى اعترضوا فيها عليه هى لما وجدوه يخالف القرآن – بدون قصد طبعا - حين أمر الناس بعدم المغالاة فى المهور بل وأراد تحديدها فقامت امراة بمنتهى الأدب تعترض وتقول ليس لك ذلك يا عمر لأن لله يقول "وآتيتم إحداهن قنطارا" ولم تسخر منه وتتهمه بالظلم.

   هذه الواقعة نتعلم منها أدب معارضة الحاكم لأن له هيبة ووقار لا ينبغى أن يمس.
روي أن المغيرة بن شعبة قال لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه :
 
يا خليفة الله ، فقال عمر : ذاك نبي الله داود ، قال : يا خليفة رسول الله ، قال : ذاك صاحبكم المفقود ( أي أبو بكر ) ، قال : يا خليفة خليفة رسول الله ، قال : ذاك أمر يطول ، قال : يا عمر ، قال : لا تبخس مقامي شرفه ، أنتم المؤمنون وأنا أميركم ، فقال المغيرة : يا أميرالمؤمنين. فعمر لم يقبل أن يناديه شعبه باسمه مجردا لأنه حريص على هيبة الدولة وأن يكون للحاكم احترامه.
   عندما أمر الله بنى إسرائيل أن يذبحو بقرة قالوا لسيدنا موسى عليه السلام:"أتتخذنا هزوا" فقال لهم:"أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (البقرة66) يعنى الاستهزاء بالناس والسخرية منهم جهل لا يليق بالعاقلين فما بالك بالسخرية من الحاكم الذى هو رمز للشعب كله هناك قنوات شرعية للاعتراض على الحاكم ليس من بينها السخرية منه والاستهزاء به عن طريق الرسوم الكاريكاتورية وسبه فمن يشتم رئيس المصريين كأنه يشتم الشعب المصرى كله لأن الدكتور مرسى حين يتحدث لا يتحدث بصفته الشخصية بل يتحدث بصفته رئيس مصر.

نرمين كحيلة



الأحد، 16 سبتمبر 2012

الأخسرون أعمالا


هل سألت نفسك يومًا إذا كنت من الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟ دعونا نتأمل هذه الآية الكريمة .. يقول - تعالى - : "قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " (الكهف:103،104) يقول الشيخ الشعراوى - رحمه الله - : (قُلْ) أي: يا محمد قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً [الكهف: 103] الأخسر: اسم تفضيل من خاسر، فأخسر يعني أكثر خسارة (أْعْمَالاً) أي: خسارتهم بسبب أعمالهم. وهؤلاء الأخسرين هم:  الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
   
    وقد ضلَّ سَعْي هؤلاء؛ لأنهم يفعلون الشر، ويظنون أنه خير فهم ضالّون من حيث يظنون الهداية. ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر، ويُنَادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة، ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صُنْعاً وقدَّموا خَيْراً، لكن هل أعمالهم هذه كانت لله؟ الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ، فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيماً وتكريماً وتخليداً لذكراهم.
ومعنى: ضَلَّ سَعْيُهُمْ [الكهف: 104] أي: بطُل وذهب وكأنه لا شيءَ، مثل السراب كما صَوَّرهم الحق سبحانه في قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً *[النور: 39].
    وهؤلاء لا يبخسهم الله حقوقهم، ولا يمنعهم الأَجْر؛ لأنهم أحسنوا الأسباب، لكن هذا الجزاء يكون في الدنيا؛ لأنهم لما عملوا وأحسنوا الأسباب عملوا للدنيا، ولا نصيبَ لهم في جزاء الآخرة.
     ويمكن أن تنطبق هذه الآية ليس فقط على الكفار ولكن أيضا على المسلم حين يخطئ أو يرتكب معصية وهو يظن أنها خير مثل من ينصب ويخدع الناس ليأخذ أموالهم ظنا منه أن هذه شطارة وفهلوة وذكاء أو مثل من تخلع الحجاب بحجة أنه رجعية وتخلف أما السفور فهو تقدم ورقى ومثل من يرى فى المشاهد الإباحية والرقص والعرى فن ورسالة أو مثل فرعون الذى رأى كفره شئ جميل وعظيم فقال لقومه: مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ. [غافر:29] أو مثل الحاكم الظالم الذى يبيد شعبه ليستمر فى الحكم ويرى فى هذا العمل عملا عظيما حسنا فى نظره أو كالصحفى الذى ينشر فضائح الناس ويتتبع عوراتهم ويشوه سمعتهم بحجة أنه يعمل خبطة صحفية وينشر الحقائق والواقع.

   يقول تعالى أيضا: "أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ"

  أى:أفمن حسَّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر به ، وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان ، فرآه حسنا فحسب سيئ ذلك حسنا ، وظن أن قبحه جميل ، لتزيين الشيطان ذلك له . ذهبت نفسك عليهم حسرات منه    فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) يقول : فإن الله يخذل من يشاء عن الإيمان به واتباعك وتصديقك ، فيضله عن الرشاد إلى الحق في ذلك ، ويهدي من يشاء ، يقول : ويوفق من يشاء للإيمان به واتباعك والقبول منك ، فتهديه إلى سبيل الرشاد ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .. يقول : فلا تهلك نفسك حزنا على ضلالتهم وكفرهم بالله وتكذيبهم لك .

   
هذا هو مفتاح الشر كله. أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً .أن يعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها .ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه
لأنه واثق من أنه لا يخطىء ! متأكد أنه دائماً على صواب !معجب بكل ما يصدر منه.لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء ولا أن يحاسبها على أمر .وبطبيعة الحال لا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في رأي يراه .لأنه حسن في عين نفسه .مزين لنفسه .لا مجال فيه للنقد  ولا موضع فيه للنقصان !هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على إنسان فيقوده إلى الضلال . فلا يأمن مكر الله   .

 "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً  ".ليشمل كل جواب .كأن يقال: أفهذا يرجى له صلاح وتوبة ؟ أفهذا يستوي مع المتواضعين الأتقياء؟ . . .إلى آخر صور الإجابة عن مثل هذا السؤال .وهو أسلوب كثير التردد في القرآن .وتجيب الآية بأحد هذه الأجوبة من بعيد:فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات
وكأنما يقول: إن مثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء  بما تقتضيه طبيعة الضلال في ذلك وطبيعة الهدى في هذا .طبيعة الضلال برؤية العمل حسنا وهو سوء . وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى . .وهو مفرق الطريق الحاسم بين الهدى والضلال
وما دام الأمر كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير .ورأوا الناس في الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون ولا يرون ما فيها من الخير والجمال .ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال.

    لذلك يقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه:   الدعاء المأثور:  "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه" ذكره البهوتي في كتابه "شرح منتهى الإرادات"قال: وفي الدعاء المأثور: "اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما) " ابن كثير) ، وهذا الدعاء من الأدعية الجامعة النافعة ، ومعناه أن العبد يسأل ربه تبارك وتعالى أن يوفقه لمعرفة الحق والصواب في كل ما حصل فيه الاختلاف بين الناس من مسائل العلم، وفي كل ما يستجد من أمور للعبد في حياته ويسأل الله أن يرزقه اتباع الحق والثبات عليه، كما أنه يسأل ربه أن يوفقه لرؤية الباطل باطلاً وضلالاً ويرزقه اجتنابه كما قيل:
عـــرفت الشــرَّ لا                                        للشر لكن لتـوقيه
ومن لم يعرف الشر                                          من الناس يقع فيه
وقد أمر الله عباده أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم في كل صلاة "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" [الفاتحة:6]، وكان النبي - صلي الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل. فاطر السماوات والأرض. عالم الغيب والشهادة. أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلفت فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" أخرجه مسلم ، وفي حديث أبي ذر – رضي الله عنه -: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ..." أخرجه مسلم.

    وكم من المعاني العظيمة التي تحملها تلك الكلمات والتي تجبرنا على الوقوف عندها والتأمل فيها
"أرنا الحق حقاً "لا يكفي أن يكون هناك حق لتحصل النجاة ، وإنما تحصل النجاة لو أرانا الله ذلك الحق أنه حقاً ، فكم من الناس والأمم جاءهم الحق من ربهم ولكن ٌطمست قلوبهم وعميت أبصارهم عنه فما رأوه حقاً واعتبروه باطلاً فنكروه بالكلية وحاربوه وعاندوا واستكبروا ، ( وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ) (الزخرف : 30) ومثلما قالى تعالى عن قوم ثمود:" وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى"(فصلت:17)

   ولنا في قصص وسير الأنبياء جميعاً أكبر الدليل على ذلك ، فما من نبي أرسل من الله إلا عاداه قومه وردوه وأنكروا ما جاء به وهو الحق من ربه .. ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) (السجدة : 3(

    وإنها لدرجة كريمة ومنة عظيمة من الله على عبده لمَّا يريه الحق حقاً ، فحري بالعبد آنذاك أن يحمد ربه ويقول الحمد لله الذي عافنا مما أبتلى به غيرنا وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا. فمن هداه الله أن يرى الباطل باطلا ويرزقه اجتنابه ويعرف الحق حقا ويرزقه اتباعه هو فى نعمة لا يحظى بها كثير من الناس فأغلب الناس ترى الباطل حقا أو ترى الحق باطلا فالتمييز بين الحق والباطل نعمة تستحق الشكر ، لذلك سُمِّى عمر بن الخطاب رضى الله عنه "الفاروق" لأنه استطاع أن يميز بين الحق والباطل فى وقت افتقد غيره من الكفار إلى تلك الميزة.

"وارزقنا إتباعه"  يا لحظ وسعادة من أراه الله الحق حقاً ثم رزقه إتباعه ، ولنا القدوة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما جاءهم الحق من ربهم إلا آمنوا به وصدقوا النبي واتبعوه ، إتباع المستسلم المسلم لأمر الله ورسوله ، لا إتباع العقلانيين!!

   فكان إتباعهم في القول والفعل ، وفي الشكل والمضمون ، وفي الجوهر والمظهر وفي كل صغير وكبير ولم يكن من النبي شيء صغير ، أما غيرهم مما عرفوا الحق من ربهم ورأوه حقاً ولكن لم يوفقوا لإتباعه فكان إتباعهم للهوى أكبر ومن اتبع الهوى هوى... ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص : 26

الشطر الثاني " وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه "

كم من باطل زينه الشيطان عند بعض القوم وألبس عليهم فتعاملوا معه وكأنه الحق ويظنون أنهم يرضون ربهم بإتباعه او يفكروا فى الامر كذلك

"وارزقنا اجتنابه "كل نبي أرسل جاء لقومه بالآيات من الله ، وكلما رأوا آية وعلموا أن الله هو الحق وما هم عليه باطل ما ازدادوا إلا تمسكاً به ، فمنهم من كانت علته في ذلك اتباع الآباء"  بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ"  ) الزخرف : 22 ) ومنهم من خاف على ضياع جاهه وماله وملكه إن ترك ما هو عليه من الباطل فآثر الحياة الدنيا على الآخرة فهلك ، ومنهم من حالت نزعته القبلية وحمية الجاهلية دون اجتنابه للباطل مع علمه به ومثل ذلك قوم مسيلمة الكذاب ، لما خرج فيهم وادعى النبوة قالوا له إن محمداً يتلو آيات ويقول أنها من وحي ربه فقل لنا مثل ما يقول ، فألف بعض الخزعبلات من الأقوال وادعى أنها من وحي الله له ، وتعالى الله سبحانه أن يكون ذلك من كلامه ، فما أن سمعه قومه وعرفوا كذبه إلا أن قالوا : والله إنا لنعلم إنك لكذاب ولكن أن يكون لنا نبي نتبعه من قومنا خير لنا من أن نتبع نبيا من قريش!! ، ومن الناس وما أكثرهم في زماننا هذا من عرفوا الباطل وأوغلوا فيه لما عظّموا عقولهم ، يأتيهم الدليل من الشرع واضح بين على ما هم فيه من الضلالة فيستكبروا ويعاندوا ويردوه بعد احتكامهم لعقولهم الخاوية وقلوبهم المريضة ولهم في ذلك أسوة في معلمهم الأول إبليس لعنة الله عليه لما أبى الامتثال لأمر ذي الإكرام والجلال حسدا من عند نفسه
"
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" (الأعراف : 12(




نرمين كحيلة