نعم ، إن للدعاء فنًا مثل أى شئ آخر، فربما دعا الأحمق على نفسھ بدلا من أن یدعو لھا ، والأمثلة على ذلك كثیرة سأذكر بعضھا بعد قلیل. لا
أتكلم عن آداب الدعاء أو شروط إجابة الدعاء ولكننى أتحدث عن فن الدعاء ، عن كیفیة التوجھ إلى لله بالسؤال ، نحن لا نعرف كیف ندعو
لله ، فمثلا عندما یرید الإنسان أن یرزقھ لله الولد ماذا یقول وكیف یدعو؟ بعض الناس یدعو أن یرزقھ لله الولد لیرث أموالھ الطائلة فیستجیب
لله لھ ویرزقھ ولدًا عاقا شاربًا للخمر محبًا للنساء یرث أموال أبیھ ویبددھا على نزواتھ وشھواتھ الجامحة. إذن لیس ھذا بدعاء حكیم. وبعض
الناس یدعو لله أن یرزقھ الولد لكى یخلد اسم العائلة فیرزقھ لله ولدًا مجرمًا یجلب لأسرتھ العار والفضیحة طوال العمر ویخلد اسمھا فى سجل
.المسجونین المسجلین خطر؛ إذن لیس ھذا بدعاء أیضًا
أعرف امرأة دعت لله أن یرزقھا بطفل شقى لأنھا لا تحب الطفل الھادئ ، وھى لا تعلم أن كلمة شقى فى الإسلام تعنى الذى سیصلى نار جھنم
فى الآخرة فقد قال تعالى فى كتابھ العزیز:"لا یصلاھا إلا الأشقى" (اللیل 15 ). فیرزقھا لله بولد أشبھ بالشیاطین یصیب أبویھ بالجنون بعقوقھ
فتندم على ھذا الدعاء السفیھ. وأخرى كانت عاقرًا فدعت لله أن یأخذ إحدى عینیھا ویبدلھا بھا ولدًا ، فاستجاب لله لھا وكان كریمًا معھا فأخذ
كلتا عینیھا ورزقھا بولدین فأصبحت عمیاء قبل أن ترى ولدیھا. ألیس ھذا غباء فى الدعاء؟! كان من الممكن مثلا أن تدعو لله بولد دون أن
تطلب منھ أخذ عینھا فى المقابل ، فلماذا نقسو على أنفسنا وندعو علیھا ؟ إن الممثل أنور وجدى- فتى الشاشة الأول فى سینما القرن الماضى -
كان فقیرًا فدعا لله أن یغنیھ ویمرضھ فى المقابل بمرض السرطان فقال:"ھات لنا سرطان بقى واغنینا یارب" فاستجاب لله لدعائھ وأصیب
بسرطان القولون ومات وترك عمارة لم تسكن بعد وأموال فى البنوك لم یستمتع بھا. فھل ھذا دعاء یدعوه عاقل ؟ وكأن الناس لا تعلم أن لله
.غنى وقادر فى الوقت نفسھ أن یمنح كل شخص مسألتھ دون أن یأخذ منھ المقابل
انظروا إلى دعاء إبراھیم علیھ السلام عندما طلب من لله الولد وكیف دعاه بحكمة وذكاء فقد قال:"رب ھب لى من الصالحین"(الصافات
100 ) یعنى أولادًا مطیعین عوضًا عن قومھ وعشیرتھ الذین فارقھم ، أى أنھ طلب من لله ولدًا صالح ولیس ولدًا شقیًا أو ولدًا عفریتا أو...أو.
فبماذا رزقھ لله؟ أعطاه لله بقدر دعائھ فقال:"فبشرناه بغلام حلیم"(الصافات 101 ) أى غلام ذو أخلاق وأدب بار بأبویھ ، مطیع لھما ، الذى
ھو سیدنا إسماعیل علیھ السلام وجعلھ نبیًا أیضًا. قال تعالى:"واذكر فى الكتاب إسماعیل إنھ كان صادق الوعد وكان رسولا نبیًا وكان یأمر
أھلھ بالصلاة والزكاة وكان عند ربھ مرضیًا". انظروا إلى دعاء زكریا علیھ السلام إذ قال:"فھب لى من لدنك ولیًا یرثنى ویرث من آل یعقوب
واجعلھ رب رضیًا"(مریم 6). أى مرضیًا عندك وعند خلقك تحبھ وتحببھ إلى خلقك فى دینھ وخلقھ..وقد قال النبى صلى لله علیھ وسلم :"رحم
لله أخى زكریا ما كان علیھ من وراثة مالھ حین قال:ھب لى من لدنك ولیًا یرثنى ویرث من آل یعقوب. وقال زكریا أیضًا:"رب ھب لى من
لدنك ذریة طیبة" (آل عمران 38 ) أى أنھ طلب من لله عزوجل أن یمنحھ من عنده ولدًا صالحًا لكى یرث الدین والعلم من آل یعقوب ، یعنى
، مثلما نقول نحن الآن بلغة عصرنا اعطنى شیئا على ذوقك أى شیئا ذو قیمة تختاره ھو لا یریده لیرث مالا أو أى شئ دنیوى لكنھ یریده
أنت لى ، فما بالنا باختیارلله ، فآتاه لله یحیى "یا زكریا إنا نبشرك بغلام اسمھ یحیى"(مریم 6). أى أن لله استجاب الدعاء وتولى تسمیتھ
بنفسھ وقال عنھ واصفا كمال أخلاقھ:"وبارًا بوالدیھ ولم یكن جبارًا عصیًا"(مریم 14 ) ."مصدقًا بكلمة من لله وسیدًا وحصورًا ونبیًا من
الصالحین".(آل عمران 39 ). قال قتادة:سیدًا فى العلم والعبادة وقال سعید بن المسیب:ھو الفقیھ العالم وقال عطیة:السید فى خلقھ ودینھ.أما أم
مریم فقد دعت لله قائلة:"وإنى سمیتھا مریم وإنى أعیذھا بك وذریتھا من الشیطان الرجیم".(آل عمران 36 ) أى دعت لله عزوجل أن یبعد
الشیطان عن ابنتھا وذریتھا من بعدھا ، وقلنا فیما سبق كیف أن لله استجاب دعاءھا بأن صرف عنھا الشیطان ھى وابنھا عیسى علیھ السلام ،
وأن الشیطان ینال من ابن آدم منذ لحظة الولادة إلا مریم وابنھا بسبب دعاء أمھا. عن أبى ھریرة رضى لله عنھ قال رسول لله صلى لله علیھ
وسلم:"ما من مولود یولد إلا مسھ الشیطان فیستھل صارخا من مسھ إیاه إلا مریم وابنھا". فقد قال لله: "فتقبلھا ربھا بقبول حسن وأنبتھا نباتا
.(ًحسنا "(آل عمران 37
روى مسلم فى صحیحھ من حدیث جابر رضى لله عنھ ورواه أبو داود فى السنن أن النبى صلى لله علیھ وسلم قال:"لا تدعوا على أنفسكم ولا
تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من لله تبارك وتعالى ساعة نیل فیھا عطاء فیستجیب لكم".لا
تدعوا: أى دعاء سوء ، على أنفسكم: أى بالھلاك ومثلھ ، ولا تدعوا على أولادكم: أى بالعمى ونحوه ، ولا تدعوا على أموالكم: أى من العبید
والإماء بالموت وغیره ، لاتوافقوا: نھى للداعى وعلة النھى أى لا تدعوا على من ذكر لئلا توافقوا ، من لله ساعة نیل أى عطاء ، فیھا عطاء
فیستجیب لكم: أى لئلا تصادفوا ساعة إجابة ونیل فیستجاب دعوتكم السوء. أى أن النبى صلى لله علیھ وسلم نھانا عن الدعاء على الأولاد
والأموال والأنفس لأنھ من الممكن جدًا أن یوافق ھذا الدعاء ساعة إجابة فیستجاب للعبد. وروى مسلم فى صحیحھ من حدیث ام سلمة رضى
لله عنھا أن النبى صلى لله علیھ وسلم قال:"لا تدعوا على أنفسكم إلا بخیر فإن الملائكة یؤمنون على ما تقولون" ، مثل تلك الأم التى دعت
على ولدھا أن یموت لأنھ أغضبھا فتركھا وخرج ، وفى الطریق داھمھ أوتوبیس قتلھ فى الحال فندمت أشد الندم وحزنت لأنھا دعت على ابنھا
، وبدلا من ذلك كان یجب أن تدعو لھ بالھدایة ، لأنھا لن تستفید شیئا بموتھ أما لو ھداه لله فستستفید من ھدایتھ..أرأیتم كیف أن السفھ فى
الدعاء یمكن أن یضیع الإنسان ؟! فمثلا یوسف علیھ السلام لم یدعو على إخوتھ بل بالعكس دعا لھم بعد كل ما فعلوه وقال:"لا تثریب علیكم
الیوم یغفر لله لكم وھو أرحم الراحمین"(یوسف 92 ). وحتى یعقوب نفسھ علیھ السلام لم یدعو على أبنائھ رغم كل عقوقھم لھ بل قال:"سوف
.(أستغفر لكم ربى إنھ ھو الغفور الرحیم" (یوسف 98
مرض أحد السلف فعاده صدیق فقال لھ: "قوى لله ضعفك" فقال:اللھم استجب لنیتھ لا للسانھ لأن معنى دعائھ أن یزید لله مرضھ رغم أن نیتھ
عكس ذلك. ودعا رجل ذات یوم فقال:"اللھم امنحنى الصبر" فقال لھ عالم سمعھ:"یا ھذا لقد سألت لله المصیبة". لأنھ یطلب الصبر فمعنى ذلك
أن لله سیبتلیھ لیصبر. وقد قال النبى صلوات لله وسلامھ علیھ:"إذا سألتم لله فاسألوه العافیة" ومع ذلك ما زال كثیر من الناس یدعو على نفسھ
أدعیة قاسیة ولا یُحسِن استخدام ألفاظ الدعاء مثل ذلك الرجل الذى قال:"اللھم ارزقنى كذا وكذا إن شئت" فإنھ لا یجب أن یقرن الدعاء بكلمة إن
شئت لأن لله لا یفعل شیئا إلا بمشیئتھ ولأن ھذا عدم ثقة فى الإجابة وكالرجل الذى یقول:اللھم قنى شر النار وحرھا وزقومھا وغسلینھا
وحریقھا و..و...فإن ھذا الدعاء فیھ إطالة وإسھاب لا داعى لھا فیكفى أن یستعیذ من النار دون ذكر كل تلك التفاصیل. فمتى نتعلم فن الدعاء
حتى لا نخسر أشیاءً كثیرة فى دنیانا وأخرانا ؟