عالم الأرواح عالم كبير وعجيب تكتنفه الأسرار والغموض ؛ فالسحر وتسخير الجان والتنجيم كانت ولا تزال من الأشياء التى شغلت أذهان الناس قديما ً وحديثا ً مما أتاح الفرصة لكثير من المشعوذين ممن يطلقون على أنفسهم أطباء روحانيين لينصبوا شباكهم حول السذج من الناس ممن يصدقون هذه الخرافات. وقد ظل سؤال يراودنى دائما ً ولا زلت أبحث له عن إجابة دون جدوى : هل هناك حقا ً أرواح تعالج وتداوى وتجرى جراحة وتقوم بدور الطبيب ؟ وما هى حقيقة الطب الروحانى؟ هل لجأ إليه الناس بعد أن يأسوا من الطب التقليدى ؟
للإجابة عن هذا السؤال قررت أن أقتحم ذلك العالم المجهول. كانت البداية عندما سمعت من إحدى الصديقات عن مكان للعلاج الروحانى والحجز بميعاد سابق ، وكان علىَّ أن أكتب علتى أو شكواى فى ورقة ثم أرسلها عبر البريد أولا ًثم بعد ذلك يحددون لى ميعاد الزيارة.. وفى الموعد المحدد ذهبت بصحبة بعض أقاربى ، كان المكان موحشا فقد اشترط الحكيم الروحانى أن يتم العلاج ليلا ً فهذا هو الوقت المفضل للأرواح لتعمل فيه بهمة ونشاط .
وفى شارع ضيق بأحد الأحياء الشعبية الفقيرة يقع المنزل الذى يقطن فيه ذلك الحكيم المزعوم.. كانت فرائصى ترتعد من الخوف وأنا أطرق الباب ، وعندما فُتِحَ لنا الباب رأيت امرأة فى الأربعينيات من عمرها ، بادرتنا بابتسامة خفيفة ثم قالت : اتفضلوا. كانت دارها صغيرة متواضعة ، أدخلتنا فى حجرة صغيرة وبعد أن تعرفت منى على ملامح مرضى العامة وشكواى ، جاءت سيدة وأطفأت الأنوار وقالت لى : "غمضى عينيكِ وتخيلى أنكِ ترين أمامك الآن مجموعة من الأطباء يقفون فى حجرة العمليات ليعالجوا مرضك" ؛ ففعلت فلم أرَ شيئا ً!! فأخذت تقرأ بعض آيات من القرآن الكريم ثم سألتنى : ماذا ترين ؟ فأقول : لا أرَ شيئا ً ؛ فتعيد قراءة ما سبق من آيات ثم تسألنى نفس السؤال فأعيد الإجابة فتكرر القراءة مرة أخرى دون جدوى إلى أن فاض بها الكيل وأحسست أنها تضايقت فقررت أن أطاوعها فادعيت أنى أرى أمامى أطباء فى غرفة العمليات كما طلبت منى فتهللت أساريرها وقالت : "الله أكبر ربنا يفتح عليكى أهه كدة الكلام" ، ثم استرسلت فى سؤالها فقالت : "الدكاترة عملوا إيه ؟ طلعوا من بطنك سحر ولا إيه ؟ إذا كان اللى عندك سحر إرفعى إيدك اليمين وإذا كان عضوى أو أى حاجة تانية ارفعى إيدك الشمال. فلم أرفع أيا ً من يدىّ فقالت :"ليه مارفعتيش إيدك ؟" قلت : "لأنى مش عارفة" فقالت بغضب :"إزاى مش عارفة ؟ أرجوكى ساعدينى حاولى تتخيلى معايا" ثم عاودت قراءة القرآن من جديد لكن ذلك لم يغير من الأمر شيئاً ، وأوهمتها أنى معمول لى عمل وأن هذا العمل موجود أمام عتبة بيتنا وتظاهرت بالبحث عنه.
وبعد قليل دخلت علينا الحجرة سيدة كانت مصابة بدوالى فى الساقين وفضلت قبل أن تذهب للطبيب أن تاتى لاستشارة هذه المرأة فلربما كان السبب فى ذلك غضب الأسياد أو الأرواح الشريرة.. ولا أعرف كيف أقنعتها هذه المرأة بأنى الآن فى حضرة الأرواح وأستطيع أن أصف لها العلاج ؟ هكذا فهمت من طريقة كلامها بأسلوب غير مباشر. وفى تلك اللحظة كادت ضحكة كبيرة تنفلت منى كتمتها بصعوبة وعندما دخلت هذه المرأة جلست أمامى والحجرة ما تزال مظلمة وأنا مغمضة العينين ، ثم قالت لى المرأة :"قولى لها يا نرمين إذا كان مرضها هذا علاجه عند الأطباء أم عندى ؟ (تقصد علاجا ً روحانيا ً) فأخذت أتخيل نفسى الشيخة نرمين المكشوف عنها الحجاب وأشفقت على السيدة المسكينة أن تقع فى براثن هؤلاء النصابين فقلت لها ما يمليه علىَّ ضميرى متمادية فى التمثيلية الكوميدية التى بدأت منذ قليل: "أنت حالتك محتاجة طبيب". كادت المرأة تُجَن فقد كانت تريدنى أن أقول لها عكس ذلك أى أن العلاج عندها فعضت على شفتيها من الغيظ ولسان حالها يقول : "انتِ طلعتى لى منين النهاردة ؟" وانصرفت المريضة منفرجة الأسارير وهى معتقدة تمام الاعتقاد فى صدق ما أقول ولحقت المرأة بها لتحاول إقناعها أن علاجها عندها بالأرواح دون جدوى.
ظهر الضيق على وجه المرأة وهى تجفف عرقها بمنديل أبيض كبير وكادت تجهر لنا به لولا خشية افتضاح أمرها فآثرت السكوت على مضض. فى تلك اللحظة كدت أنفجر من الضحك وخشيت أن تتفلت منى ضحكة هنا أو هناك رغما ً عنى ، فأشرت إلى أقاربى بالنهوض ومغادرة المكان وكانت الأنوار قد أضيئت ثانية ، وحينما هممنا بالوقوف وعدتنا المرأة أنها سوف تتفاهم مع الأرواح حتى أشفى تمامًا ولما خرجت إلى الردهة وجدت بعض النسوة اللائى جئن طلبا ً للعلاج أو الاستشارة فنظرت إليهن وحدثت نفسى سرا ً:"إلى اللقاء أيتها المغفلات المخدوعات" وانتهت هذه المغامرة المثيرة على خير.
نرمين كحيلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق