هذه ليست دعوة للحزن وإنما هى أمر من الله إلى المؤمنين حيث قال تعالى "لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور ٍ" (الحديد:23)
سعى الإسلام - ابتداءً - إلى تصحيح معتقد الناس تجاه ما يجري في هذه الحياة الدنيا، حين أعاد الأمر كله لله تعالى؛ مُلْكاً وخَلْقاً، ومشيئةً وقضاءً، فبدأ الآيات بتلك المقدمة: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ .........} [الحديد : 22-23].
إن الله وهو يربي عباده ويقوِّم سلوكهم - يبين لهم أنه - تعالى – قدَّر مقادير الخلق قبل أن يخلق الأرض،فكل مصيبة أو نعمة تصيب الإنسان هى أمر مقدَّر في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الخلائق بخمسين ألف سنة.
إذا علم المؤمن ذلك وآمن به، أيقن أن هذا المقدَّر لا يدفعه سخط ، ولا ينجي منه جزع، عندها يضبط انفعالاته بضابط الشرع، سواء فيما اتصل بحزنه ، أو في فرحه وأياً ما كان التوجيه، فما يقال في أمر المصيبة المحزنة، يقال في أمر النعمة المفرحة؛ فالمسلم المتَّزن - في ضوء توجيهات الآية السابقة - لا يحزن حزن القانط من رحمة الله ولا يندم على شئ فاته ، ولا يفرح فرح البطر المنسي لشكر الله.
ولهذا ختم الله الآية بقوله: " وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ " أي: متكبر فظ , معجب بنفسه, فخور على الناس بنعم الله, ينسبها إلى نفسه.
وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه" ثم قرأ "لكيلا تأسوا على ما فاتكم" أى كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم ما كان ليفوتكم "ولا تفرحوا بما آتاكم" أي من الدنيا. وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي.
أما قوله تعالى:((إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ))[القصص:76]؟ فهذه الآية نزلت في قصة قارون: "إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" والمراد بذلك الفرح الذي يصحبه الكبر والبغي على الناس والعدوان والبطر واحتقار الناس ، هذا المنهي عنه ، أما الفرح بنصر الله وبرحمته ونعمه وإحسانه فهذا مشروع؛ كما قال الله عز وجل:"قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ"(يونس:58).
إن ترف قارون ومرحه جعله أنموذجاً لكل الأصناف، التي صدرت منها صور من الفرح المذموم؛ فقارون من اليهود الذين عُرف عنهم حب المال وعبادته, وتقديم الفرح به على كل شيء. وقد كان من بني إسرائيل, قومِ موسى, وكان من أعبد بنى إسرايل وأقربهم لموسى عليه السلام وكان فقيرا فقال لموسى عليه السلام:"ادعو لى ربك أن يغنينى" فقال له:"ولكن هل توفى حق الله لو أصبحت غنيا؟" قال:"نعم" فآتاه الله تعالى مالاً كثيراً, فرح به فرحاً جعله يتجاوز الحد, فتطاول على قومه, وأعرض عن الاعتراف بفضل الله, وتجاهل الحقوق الواجبة عليه, فاستحق بذلك ما استحق.
فانقسم قومه تجاه مسلكه إلى فئتين:
الأولى: كانت الفئةَ المؤمنة، التي لا تشغلها زخارف الدنيا ولا الفرح بها عن القيم العليا والدار الآخرة, فذهبت هذه الفئة إلى قارون ومن فُتِن به واعظةً ومحذرة: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، والفَرِح بكسر الراء: مَن أكثر من الفرَح، وتخلَّق به على الدوام حتى يصير خُلُقاً فيه , فينقلب من انفعال نفسي معفوٍّ عنه إلى صفة مذمومة.
إن قارون لم يبتغ فيما آتاه الله الدار الآخرة, وإنما كان همه الدنيا فقط, ولم يحسن إلى الناس كما أحسن الله إليه, ودفعه فرحه المذموم إلى البخل, فوعظه قومه في هذه الأمور؛ لكنه لم يُلقِ لهم بالاً, وحمله فرحه إلى العُجْب بنفسه {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص:78].
الثانية: الفئة المفتونة: كانت الموعظة من الفئة المؤمنة إلى أولئك الذين فتنوا بكنوز قارون، وتمنوا شيئا منها {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[القصص:79]
{فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ في زِينَتِهِ} [القصص:79], والتعبير ب"على" يتضمن معنى التكبر والتطاول, حمله فرحه على المرح، فأظهر ماله, وعرض زينته, وصاحب هذا ازدراءٌ لقومه؛ لأنهم لا يملكون ما يملك.
وكانت نهاية قارون دليل واضح على أن الإيتاء لا يدل على الرضا من المعطي, ولا على إكرام, ولا كان هذا العطاء مانعاً من العذاب, بل قد يكون العطاء طريقاً للهلاك, ومؤشراً على قربه {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، ولمّا غابت هذه الحقيقة عن المترفين، صارت أموالهم مدعاةً للفرح والبطر, بدلاً من أن تكون فرصةً للتأمل والمراجعة.
فالمؤمن يفرح أن الله هداه إلى الإسلام، وأن الله أعانه على صلاة الجماعة، وأن الله أعانه على بر والديه وصلة أرحامه، وأعانه على فعل الخير هذا مشروع، ينبغي له أن يفرح بذلك، ويحمد الله على ذلك.
ويقول الباحث:زيد عمرو عبد الله فى البحث الذى قام به بعنوان:"الفرح..دراسة قرآنية تربوية": وقد ذكر الفرح في القرآن الكريم في اثنين وعشرين موضعاً، هذا الفرح المذكور في القرآن قسمان: مطلق ومقيد. مطلق لم يقيد بسبب للفرح وهو مذموم ، ومقيد ينقسم إلى قسمين: مقيد بالدنيا وهو مذموم كالقسم الذي قبله، أو هو الفرح بفضل الله ورحمته وينقسم أيضاً قسمين: فرح بالمسبب وفرح بالسبب. أما الفرح المطلق فقد ذكر في خمسة مواضع بالقرآن. والمقيد بالدنيا ذكر في ثلاثة عشر موضعاً.والمقيد بفضل الله ورحمته ذكر في أربعة مواضع موضع واحد للفرح بالمسبب وثلاثة للفرح بالسبب.
فقد قال ربنا تبارك وتعالى:"ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور" (هود:9،10) فهذا فرح مطلق ولهذا فهو مذموم. يخبر الله تبارك وتعالى في هاتين الآيتين عن طبيعة الإنسان أنه جاهل ظالم لأنه إذا أذاقه سبحانه منه رحمه كالصحة والرزق والأولاد ونحو ذلك ثم نزعها منه فإنه يستسلم لليأس وينقاد للقنوط فلا يرجو ثواب الله تعالى ولا يخطر بباله أن الله سيردها أو مثلها أو خيراً منها عليه. وإذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته أنه يفرح ويبطر ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير، فيفرح بما أوتي مما يوافق هواه، ويفخر بنعم الله على عباد الله، وذلك يحمله على البطر والإعجاب بالنفس والتكبر على الخلق واحتقارهم وازدرائهم. وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان إلا من وفقه الله وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضدّه، ولهذا أعقب الله تعالى هاتين الآيتين بقوله تعالى: "إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات" صبروا إذا آتاهم الله نعمة ثم نزعها منهم، أولئك لهم مغفرة أجر كبير.لذلك فالمؤمن يقول إذا جاءته المصيبة:"اللهم اأجرنى فى مصيبتى واخلفنى خيرًا منها" وبذلك يكون مطمئن البال لا يصاب بالاكتئاب أو الأمراض النفسية والذبحة الصدرية إذا لم يرزق بالأولاد أو ضاعت أمواله فى البورصة أو تأخر به سن الزواج أو فقد عزيزا ....إلخ.. بل يكون راضيا فى كل الأحوال.
وأما القسم الثاني: الفرح المقيد بالدنيا فنجده فى تلك الآيات الأربع من سورة الأنعام من الآية الثانية والأربعين إلى نهاية الآية الخامسة والأربعين.. يقول الله تعالى: "...........فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء" أي من الدنيا ولذاتها وغفلاتها. "حتى إذا فرحوا بما أوتوا" من الدنيا. "أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون" أي آيسون من كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب أن يؤخذوا على غرة وغفلة وطمأنينة ليكون أشد لعقوبتهم وأعظم لمصيبتهم.
)الأنعام:42-45).
هذا ويقول علماء النفس عن انفعال الانسان بالفرح والحزن أنه في حالة حدوث الإنفعالات بشكل مستمر ودائم يترتب عليه العديد من التغيرات الفسيولوجية مما يؤدي إلى حدوث تغيرات عضوية في الأنسجة وينشأ في هذه الحالة ما يسمى بالأمراض النفسية – الجسمية أو( السيكوسوماتية) . ومنها قرحة المعدة وإرتفاع ضغط الدم والذبحة الصدرية.
حيث يؤثر الإنفعال على تفكير الفرد فيمنعه من الإستمرار كما هو الحال عند فقدان عزيز..ويقلل الإنفعال من قدرة الشخص على إصدار الأحكام الصحيحة كما يؤثر أيضا على الذاكرة ويقول علماء النفس أنه لتقليل أضرار الانفعالات والسيطرة عليها يجب جعل الطاقة الانفعالية في أعمال مفيدة حيث يولد الانفعال طاقه زائدة في الجسم ومن الممكن أن يتدرب الإنسان على أن يقوم حينما ينفعل ببعض الأعمال المفيدة للتخلص من هذه الطاقة. وهذا ما نصحنا به الإسلام حين قال أنه عند الفرح بنعمة يجب أن نسجد سجدة شكر لله لنخلص الجسد من هذه الشحنات الكهرباية الزائدة المضرة بالجسم.
وقال سبحانه: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]. يعنى الفرح والحزن بمقادير الله.
ولقد أدرك الفلاسفة وعلماء النفس هذا الأمر، فنبَّهوا إلى أثر الإرادة في تهذيب الفرح باعتباره انفعالاً، وعبّر بعضهم عنها بقوة الأعصاب ، أو بضرورة ممارسة الفضيلة؛ لتجنب الآثار السلبية للفرح على النفس. إن الصبرالمأمور به شرعاً خيرُ ضابط لانفعالات الإنسان, وأفضل معين على زينة الدنيا وفتنتها, والصبر أكمل وأكثر نفعاً من الضوابط التي وضعها الفلاسفة وعلماء النفس.
إن الإنسان - بصفة عامة - غيرُ متَّزن تجاه انفعالاته، وما يَعْرض له، وأكد القرآن الكريم هذه الصفة في مواضع منها: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [ المعارج:19-21]، والهلع: قلة إمساك النفس عند اعتراء ما يحزنها أو ما يسرها، أو عند توقع ذلك والإشفاق منه.
لذلك فقد حرص الإسلام على تهذيب الفرح وتوجيهه ؛ لإبراز الجانب الإيجابي منه، ولاستثماره بما يعود على النفس بالخير والسعادة.
لا يخلو الفرح من آثار سلبية، بخاصة إذا بُني علي أساس غير صحيح، يقول ديكارت: "إن انفعالَي الفرح والحزن حين يكونان متساويين في الاستناد إلى أساس خاطئ؛ فإن الفرح في العادة يكون أشدَّ ضرراً من الحزن". ويعلل هذا قائلاً: "لأن هذا الأخير – يعنى: الحزن - حين يلزمنا جانب التحفُّظ والتخوُّف يعدنا بطريقة ما إلى الحيطة والحذر، في حين أن الآخر - الفرح - يجعل الذين يستسلمون له جسورين وغير مبالين".
وقد فسر أحمد بن يحيي ثعلب الفرح بأنه: "خفة في النفس ، وما قصة الرجل الذي وجد راحلته، التي عليها طعامه وشرابه، بعد أن يئس منها، واستسلم للموت عنا ببعيدة؛ فإنه حين وجدها واقفة فوق رأسه، قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ هذا الخطأ الشنيع من شدة الفرح"
وقد لاحظ "أفلاطون" هذا الشيء؛ فقال: "إن اللذة المفرطة تجعل الإنسان هائم العقل مضطرباً، مثل ما يفعل به الحزن في الغالب"
لعل ما تقدم يفسر لنا: لِمَ كانت العرب تعدُّ تركَ الفرح منقبةً تُمْدح بها؟
ويُسهِّل فهمَ تفسير ثعلب للفرح بأنه خفة في النفس - ما ذكره العلم الحديث: من أن الإنسان الفرِح يسرع نبضه؛ لأن الأوردة المتجهة إلى القلب تتوسع، ويكون الدم فيها ساعة الفرح سائلاً جداً ورقيقاً ، ويتناسب مع هذا قول العرب في وصف الشخص (الفَرِح) بقولهم: "يكاد يطير من الفرح".
وأكثر من هذا؛ فإن الفرح قد يؤدي إلى الموت، بخاصة أن الفرح يأتي فجأة ، وفى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الجنة ما يُعِين على تفهُّم هذا الرأي، فقد قال في وصف فرح أهل الجنة: ((فلولا أن الله قضى لأهل الجنة الحياة فيها والبقاء، لماتوا فرحاً)).
والسرور كالفرح وحسبنا دليلاً سرور الكافر بين أهله في الدنيا، كما قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [الانشقاق: 13]، وهو سرور مملوء بالكدر؛ لأنه جَلَبَ لصاحبه عذاباً شديداً في الآخرة، ولم ينل من حقيقة السرور في الدنيا إلا القشور.
والحزن كذلك يجب أن يتم تهذيبه فقد حزن الرسول - صلى الله عليه وسلم - على موت ابنه إبراهيم، وكان حزنه منضبطاً بالشرع حين قال: ((إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا)).
وكذلك الغضب، فهو انفعال ، الإفراط فيه مذموم، ولهذا عَدَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان، وأوصى رجلاً، فقال له مراراً: ((لا تغضب)).
والتفريط في الغضب، وانعدامه في النفس - مذمومٌ؛ لأنه لا يبقي فيها حميَّة ولا غَيْرَةً، وحين أمر الله تعالى ملائكة العذاب أن تهلك أهل قرية، أمرها أن تبدأ بعابد من أهل هذه القرية؛ لأن وجهه لم يتمعَّر بسبب انتهاك حرمات الله، ولم يغضب في الله أبداً.
إن المسلم مأمور بأن يفرح، حين ينتصر الحق على الباطل، في أيٍّ من ميادين الصراع, وهو فرح محمود يثاب عليه.
قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:2-5].
أنزل الله تعالى هذه الآياتِ مشيرةً إلى هزيمة الروم, ومؤكدةً أن الفرس سيُهزمون في معركتهم القادمة مع الروم, وسيكون هذا بعد عدة سنوات, وعندها سيفرح المسلمون بنصر الله, وقد تحقق وعد الله.
لقد ذكر القرآن الكريم فرح الشهداء (وهو الفرح المقيد بسبب)، وهم أولئك الذين فرحوا بالإسلام في الدنيا؛ فهانت عليهم أرواحهم في سبيله؛ فماتوا من أجله؛ فامتد فرحهم في الآخرة؛ يقول الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران : 169-170].
إنه فرح متميز لفئة مخصوصة بالتكريم, تفرح عند ربها فرحاً يليق بهم في مقامهم ذاك, وقد أومأت السُّنَّة إلى بعض مظاهره، حين ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة، تروح وتغدو أينما شاءت، تتمتع بنعيم الجنة, يفرحون بما آلت إليه حالهم بفضل الله تعالى, ويستبشرون بما ستؤول إليه أحوال إخوانهم الذين يطمعون أن يرزقوا الشهادة، وينتظرون اللحوق بإخوانهم.
إن فرح المؤمن بلقاء الله يفوق الوصف, حين يقال له: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر : 27-30] فلو لم يكن إلا هذه الفرحة وحدها، لكان العقل يأمر بإيثارها، فكيف ومن بعدها أنواعٌ من الفرح؟.
لقد كان لعدم توازن الكافر في انفعالاته مظاهر وآثار منها: أن فرحه محصور في الدنيا, ولا يلتفت إلى نداء الآخرة. يقول الله تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } [الرعد:26].
في قصة سليمان - عليه السلام - مع ملكة سبأ, صورتان متقابلتان لفرح المؤمن وفرح الكافر: لقد فرح أهل سبأ بهديتهم التي حُملت إلى سليمان, وهي شيء تافه إذا ما قيست حتى بنعيم الدنيا, وقد ظنوا أن نبي الله سليمان سيفرح بالهدية كما فرحوا: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:35-36].
أجابهم سليمان – عليه السلام - باستنكار: أنتم وحدكم الذين تفرحون بمثل هذه التوافه, أما نحن، فإنَّا نفرح بما آتانا الله من إيمان؛ فهو مصدر الفرح الحق.
وثمَّةَ وجهٌ آخر مذموم في فرح الكافر, وهو أنه يفرح بالنعمة من حيث هي نعمة، دونما التفات إلى مصدرها؛ فهو فرح يتعلق بالنعمة نفسها, وليس لكونها من الله تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا}.
ذكر الرازي مثالا حسيّاً قرَّب به هذا المعنى، فقال: "لو أن ملكاً وضع أمام أحد الأمراء رغيفاً, أو أمر الخادم أن يضع أمام هذا الأمير زبدية طعام؛ فإن الأمير يفرح بهذا، ولو قدم الملك إلى فقيرٍ رغيفاً, أو زبدية طعام غير ملتفت إليه؛ فإن الفقير يفرح, لكن فرح الأمير يكون بهذا الشيء اليسير من يد الملك, أو بأمره, أما فرح الفقير الغافل، فإنه يكون بالرغيف والزبدية, وشتَّان بين الفرحَيْن, مع أن ما فرحا به شيء واحد".
إن الفرق ظاهر بين حال الكافر في فرحه وحال المؤمن، فارتباط فرح الكافر بالنعمة ذاتها يفسر عدم توازنه ؛ لأنه يفرح بها فرح البَطَر إذا أقبلت, ويحزن حزناً شديداً إذا فقدها؛ لافتقاره للضابط ، الذي يكبح جماع انفعالاته.
أما المؤمن، فإنه حين ترتبط النعمة عنده بالله تعالى؛ فإنه يفرح بها فرح المقرِّ بفضل الله الوهاب لها, فلا يبطر؛ لأن المعطي فوقه يرقب فعله, وإن نزعت منه النعمة, أو فاته الحصول عليها يصبر؛ لاعتقاده أن ما حصل كان بقضاء الله وقدره, وقد تعود إليه, ويظفر بها مرة أخرى ما دام أمرها بيد الله تعالى.
إن هذا المسلك الذي ارتضاه الكافرون جعلهم يُعْرِضون عن دعوة الرسل فرحاً بما عندهم {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } [غافر : 83].
وفيهم يقول الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]. وعلى ذلك فإن الفرح المذموم يجعل صاحبه يسيء الظن بالله؛ لأنه يخشى أن ينزع الله منه الأشياء المفرحة.
والمرح مذموم أيضا فقال تبارك وتعالى:"ولاتمش في الأرض مرحا" والمرح شدة الفرح.
ومن هنا فإن المؤمنين لا يفرحون، ولا يحزنون"، وقد رأينا مثل هذا التوجه عند بعض الفلاسفة، مثل سقراط، ومن تبعه مثل الكندي حيث يرى هؤلاء: أنه لا ينبغي للإنسان أن يقتني أشياء مفرحة؛ لأنه إذا فقدها حزن"
وفى ذاكرة كل منا حوادث مؤسفة سُمعت أو شوهدت, أعقبت فرحاً,فأعقبها حزن - كالتهور في قيادة السيارات مثلاً - كان القصد منها التعبيرَ عن الفرح؛ فأدت إلى حالات وفاة, أو إعاقة دائمة تظل ماثلة أمام الناس, ومن العجب أنها نشأت بسبب التعبير عن الفرح, يقول ديكارت "إن دفع الأشياء التي تضر، ويمكنها أن تهدم أهمُّ من اكتساب الأشياء التي تضيف كمالاً، نستطيع أن نستمر في الحياة بدونه".
وقد سبق الشرع الحكيم إلى هذا المعنى في القاعدة المشهورة التي تقول: "دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة".
نرمين كحيلة