الجمعة، 6 يناير 2012

لم تقولون مالا تفعلون؟



     يستهين كثير من الناس هذه الأيام بإخلاف الوعد ولو علموا مدى بشاعة هذا السلوك لفضلوا الموت على إخلاف الوعد..فقد قال رب العزة:" يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" (الصف:3)
    ناداهم بوصف الإيمان ليؤكد أن الإيمان من شأنه أن يمنع المؤمن من أن يخالف فعله قوله في الوعد بالخير كما نقول نحن مثلا:يا ذكى افهم أو يا أمين لاتخن ، يعنى ليس هناك مؤمنا من صفاته إخلاف الوعد  ."كبر مقتا": أى شئ كبير جدا عند الله أن تفعلوا ذلك الفعل الشنيع و"المقت" هو البغض الشديد أى أن الله يكره هذه الصفة الذميمة كرها شديدا ولا يقبل أن يتصف بها المؤمن.
 
    وهذا ما أثبته الحديث الشريف:"عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً. ومن كانت فيه خَصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدَر، وإذا خاصم فجر" (متفق عليه(.. يعنى إخلاف الوعد هو صفة أصيلة فى المنافق لأنه يقول مالا يفعل والمنافق أشد من الكافر فهو فى الدرك الأسفل من النار.
   ولهذا قالت الحكمة المأثورة:"وعد الحر دين عليه" أى أن كلمته ووعده الذى تلفظ به لسانه هو بمثابة دين معلق فى رقبته وجب عليه الوفاء به تماما مثلما يقترض شخص أموالا وتصبح دينا عليه..تأمل كلمة "الحر" أى أن العبد لا يلتزم بوعده لأنه لا يمتلك نفسه بل هو ملك لغيره لكن الحر عار عليه ألا يفى بوعده حتى لو كلفه ذلك حياته.
 
    وقديما قالوا:"الرجل يُربَط من لسانه" أى أن الكلمة التى وعد بها ربطته وألزمته حتى لو لم يكتب بذلك عقدا..لاحظوا معى كلمة "الرجل" أى أن من يخلف وعده ليس رجلا.
وهذا هو تعريف الله للرجولة:" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا  ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما "(الأحزاب: 24،23) لم يقل الله عزو جل كل المؤمنين رجال بل قال بعضا منهم فقط أى أن صفة الرجولة لا يتصف بها إلا الذين تطابق أفعالهم أقوالهم.

    لما ذكر عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار ، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق و صدقوا ما عاهدوا الله عليه "فمنهم من قضى نحبه"  قال بعضهم : أجَله . وقال البخاري : عهده . وهو يرجع إلى الأول .

" ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"
 أي : وما غيروا عهد الله ، ولا نقضوه ولا بدلوه .

   
فقد تتعلق آمال وأحلام وحياة إنسان بكلمة وعد منك وقد يدمر حياته إخلافك لهذا الوعد..شاب مثلا وعد فتاة أن يتزوجها فتعلقت آمالها وأحلامها به ورفضت كل من تقدم لها ورهنت نفسها له ثم بعد ذلك أخلف وعده معها ولم يتزوجها فمن الممكن أن يحطم قلبها وربما مستقبلها وحياتها بسبب إخلافه لوعده..رئيس وحكومة تدلى بتصريحات ووعود لشعبها ثم لا تحقق منها شيئا فتحطم آمال شعب كامل .. أب وعد ابنه بشئ ولم يفعله ، فيكون قدوة سيئة لابنه وبالتالى يفقد الثقة بأبيه.. خطيب يعد خطيبته بأشياء بعد الزواج ولا يفعلها وربما هى تزوجته بشرط تنفيذ هذه الوعود..مرشح مجلس شعب وعد ناخبيه بوعود ولما وصل لمجلس الشعب لم يفِ بها.....وهكذا.

    وأخرج ابن كثير بسنده في قوله تعالى:  "وأنهم يقولون ما لا يفعلون" عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أكثر قولهم يكذبون فيه ، قال ابن كثير: وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الأمر، فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم فيتكثرون بما ليس لهم فهذا هو معنى تلك الآية. فعلى سبيل المثال قال أحمد شوقى:
رمضـان ولـى هاتهـا يا سـاقِ                                   مشتـاقة تسعـى إلى مشتـاق
   هذا البيت يناجى به أحمد شوقى كأس الخمر أو زجاجة الخمر رغم أن أحمد شوقى نفسه كان لا يشرب الخمر فحينما ذهب إليه الشيخ الشعراوى وسأله عن هذه القصيدة تلى عليه شوقى هذه الآية"وأنهم يقولون مالا يفعلون"

    ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه
قال تعالى: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ "
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية:
 أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ " أي: بالإيمان والخير.

" وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ " أي: تتركونها عن أمرها بذلك "وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ "

وسُمِيَّ العقل عقلاً لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير, وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يَحُث صاحبه أن يكون أول فاعلٍ لما يأمر به, وأول تاركٍ لما ينهى عنه.
    فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله , أو نهاه عن الشر فلم يتركه , دل على عدم عقله وجهله, خصوصاً إذا كان عالمًا بذلك , قد قامت عليه الحجة.وهذه الآية , وإن كانت نزلت في بني إسرائيل, فهي عامة لكل الناس
وقال شعيب عليه السلام لقومه: "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه".(هود:88) ، يعني أنه يقول لقومه : لا يمكن أن أنهاكم عن نقص المكيال والميزان وأنا أفعله.
   وعن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: " يؤتى بالرجل يوم القيامة فليقي في النار ، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدورُ الحمارُ في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ؟ ألم تك تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى كنت آمرُ بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه" متفق عليه .
   هذا الحديث فيه التحذير الشديد من الرجل الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه ، وينهى عن المنكر ويأتيه، والعياذ بالله . يقول: " يؤتى بالرجل يوم القيامة" أي تأتي به الملائكة ، فيلقى في النار إلقاءً ، لا يدخلها برفق، ولكنه يلقى فيها كما يلقى الحجر في اليمّ، وتندلق أقتاب بطنه، يعني أمعاءه ، ومعنى تندلق : تخرج من بطنه من شدة الإلقاء- والعياذ بالله .
" فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا" وهذا التشبيه للتقبيح، شبهه بالحمار الذي يدور على الرحا، وصفة ذلك: أنه في المطاحن القديمة قبل أن توجد هذه المعدات الجديدة ، كان يُجعل حجران كبيران وينقشان فيما بينهما أي ينقران، ويوضع للأعلى منها فتحة تدخل منها الحبوب ، وفيها خشبة تربط بمتن الحمار، ثم يستدير على الرحا، وفي استدارته تطحنُ الرحا. فهذا الرجل الذي يلقى في النار يدور على أمعائه- والعياذ بالله - كما يدور الحمار على رحاه، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون له : ما لك؟ أي شيء جاء بك إلى هنا ، وأنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول مقراً على نفسه:" كنت آمر بالمعروف ولا آتيه" يقول للناس " صلوا ولا يصلي.  ويقول لهم : زكوا أموالكم ولا يزكى. ويقول : بروا الوالدين ، ولا يبر والديه، وهكذا يأمر بالمعروف ولكنه لا يأتيه. "وأنهى عن المنكر وآتيه" يقول للناس: لا تغتابوا الناس ، لا تأكلوا الربا، لا تغشوا في البيع، لا تسيئوا العشرة، لا تسيئوا الجيرة، وما أشبه ذلك من الأشياء المحرمة التي ينهى عنها ، ولكنه يأتيها  والعياذ بالله ، يبيع بالربا، ويغش، ويسيء العشرة ، ويسئ إلى الجيران وغير هذا، فهو بذلك يأمر بالمعروف ولا يأتيه ، وينهى عن المنكر ويأتيه - نسأل الله العافية - فيعذب هذا العذاب ويخزى هذا الخزي. فالواجب على المرء أن يبدأ بنفسه فيأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر؛ لأن أعظم الناس حقاً عليك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسك.
ابــدأ بنفســك فــانههــا عن غيهـــا
                                       فــإذا انتهــت عنــه فأنت حكيـــم

 قال أبو الأسود الدؤلي :يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي الاسقام وذي الضنى كيما يصح به و أنت سقيم
و أراك تصلح بالرشاد عقولنا نصحًا و أنت من الرشاد عديم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
لا تنهِ عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
   والله تعالى لا يخلف عهده أبدا فقد قال: "وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ ..." (البقرة:88)
   وحينما وعد أم موسى عليه السلام قال:"فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون" ( القصص: 13)
   وأول عهد يجب الوفاء به هو عهدنا مع الله عز وجل فمثلا لو نذر أحد نذرا لله يجب الوفاء به وقد جاء ذكر النذر في كتاب الله في مقام المدح قال تعالى عن عباده المؤمنين : " إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا . يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا" (الإنسان: 5-7) فجعل - تبارك وتعالى - خوفهم من أهوال يوم القيامة ووفاءهم بنذورهم من أسباب نجاتهم ودخولهم الجنة .
   ونذر سيدنا أيوب عليه السلام أن يضرب امرأته ووفى بنذره "وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " (ص: 44) أن خذ يا أيوب بيدك قليلا من القش غير المؤلم واضرب به ولا تحنث بيمينك الذي قطعته من قبل ..أليس الله كان قادرا أن يعفى سيدنا أيوب من الوفاء بهذا اليمين؟ لكنه أراد أن يعلمنا ألا نقول شيئا ونفعل غيره.
   يقول الدكتور محمد العريفى:"جاءنى رجل يلح فى مقابلتى لشئ ضرورى فلما قابلته قال لى:يا شيخ عندى أخ يحمل الشهادة الإبتدائية وأريدك أن تدبر له وظيفة..أيقنت أنى لو وعدته سأخلف..فنحن فى زمن لا يكاد حامل البكالوريوس أن يجد وظيفة..فضلا عن حامل الإبتدائية..وأنا أعرف حدود قدراتى..فقلت:يا أخى والله أتمنى أن أساعدك وأخوك أخى وأنا أتألم له كما تتألم لكنى لا أستطيع مساعدتك أبدا أتمنى أن تتكرم على وتعفينى ...فناولنى الورقة التى فى يده وقال: يا شيخ خذ هذه الورقة فيها أرقام هواتفنا إذا وجدت له وظيفة فاتصل بنا. فقلت:بل دع الورقة معك وخذرقمى أنت وإن وجدت وظيفة فاتصل بى لعلى أكتب لك شفاعة للمسؤول فيها. فقال لى:بيض الله وجهك والله يا شيخ سبق أن كلمت الأمير فلان فى موضوع أخى منذ سنة فأخذ الورقة أيضا ولم يتصل ولم يهتم..هؤلاء أناس لا يهتمون بالضعفاء..الله ينتقم منهم ..فقلت فى نفسى:الحمد لله ..لو أخذت الورقة لصرت ثالثهم"
    فلا تعد بما لا تستطيع فعله ولا تقل مالا تفعله وتعلَّم أن تقول "لا" فلأن تعتذر فى البداية خير لك من أن تعتذر فى النهاية.
نرمين كحيلة



هناك تعليقان (2):

hmada يقول...

فعلا مقال من اعظم ما قرات بتوفيق وننتظر المزيد والمزيد ربنا معاك

hmada يقول...

مقال من اجمل ما قرات با التوفيق وفى انتظار المزيد والمزيد