الجمعة، 13 يناير 2012

السير مع القطيع



    سلوك القطيع هو مصطلح يطلق على سلوك الأشخاص في الجماعة عندما يقومون بالتصرف بسلوك الجماعة التي ينتمون لها دون تفكير أو تخطيط.. هذا المصطلح في الأساس يطلق على تصرف الحيوانات في القطيع أو السرب ..وقد أجريت العديد من البحوث على الأشخاص لفهم تصرف البشر في الجماعة الواحدة عندما يقومون بالتصرف بسلوك متشابه في نفس الوقت أي ما يعرف بـ"أخلاق القطيع" أو سلوك القطيع", فوجدوا أنه في الجماعة الواحدة , يميل الأشخاص الأقل مركزا أو الاقل تأثيرا في الجماعة إلى التصرف بسلوك من هم أعلى مركزا أو أحسن حالة وظيفية أو اجتماعية.
   ونظام القطيع معناه أنه عندما يكون العدد الضخم فى مكان ما فيحدث شئ يفزعه تجد القوى يثب فوق الضعيف وتجد الكبير يقفز فوق الصغير وإذا بالنساء والأطفال يذهبون تحت الأقدام ، كل يجرى لكى يحرص على حياته حتى لو داس غيره.

   فإذا كان نظام القطيع يناسب الحيوان لأنه بلا عقل فإنه لا يناسب الإنسان الذى ميزه الله بالعقل..لذا فقد نهى الإسلام عن نظام القطيع وأوجد لنا نظاما آخر أفضل منه هو نظام الصف الذى نبه إليه القرآن - كما يقول الشيخ الغزالى رحمه الله - قال تعالى:"إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص"(الصف:3).. ونظام الصف هو الذى قال فيه النبى صلى الله عليه وسلم:"أقيموا الصفوف فإنما تصفون بصفوف الملائكة وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا فى أيدى إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله تبارك وتعالى ومن قطع صفا قطعه الله". رواه أحمد وأبو داود.
  
   والسير مع القطيع معناه أن تكون إمعة أى تفعل كما فعل مجتمعك دون تفكير حتى لو كان خاطئا ، والإمعة هو الانسان منعدم الشخصية إن ذهب الناس يمينا ذهب يمينا
إن لبس الناس لبس إن ضحك الناس ضحك ، لا قرار له في الحياة دائما يتبع.

   وفى هذا يقول نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه:" لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا"  رواه الترمذي في سننه عن حذيفة رضي الله.
معنى إمعه : ان تفعل كما يفعل الآخرين إن أحسنوا أحسنت مثلهم وإن أساؤا أسأت مثلهم.قال الجوهري في صحاحه : يقال الإمع والإمعة أيضاً للذي يكون لضعف رأيه مع كل أحد.
ولقد أصاب من قال :شمِّر وكن في أمور الدين مجتهداً       ولا تكن مثل عِير قِيدَ فانقادا
وذكر ابن عبد البر بإسناده عن ابن مسعود في تفسير الإمعة أنه قال:
كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يُدعَى إلى الطعام فيذهب مع غيره.

  و التقليد الأعمى الذي يقلد فيه المرْء شيخه أو والده أوشخص أعجب به دون الرجوع للأدلة الشرعية وإن كان هذا التقليد لايمت للكتاب والسنة بأية صلة ولنا في ذلك أدلة كثيرة قوله تعالى ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)) (البقرة:170) وقد ذكر عن الفِرَق الضالة كلام يبين كيف أنهم زاغوا بسبب التقليد الأعمى فإن كثيراً من الزائغين عن الحق من المعتزلة والقدرية والجهمية والرافضة وغيرهم مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضي من أسلافهم فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلاً لم ينزل الله به سلطاناً ولا نقلوه عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف المتقدمين.
   ويصور لنا القرآن تصويرا رائعا لموقف الذين عاشوا طوال حياتهم إمعة وتابعين لغيرهم ممن نسميهم فى عصرنا الحالى (عبد المأمور)"وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص" )إبراهيم:21)
 ( وبرزوا [ لله ] ) أي : برزت الخلائق كلها ، برها وفاجرها لله وحده الواحد القهار ، أي : اجتمعوا له في براز من الأرض ، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدا .

    فقال الضعفاء )
وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم الذين استكبروا عن عبادة الله وحده لا شريك له ، وعن موافقة الرسل ، فقالوا لهم : ( إنا كنا لكم تبعا ) أي : مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا   ( فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ) أي : فهل تدفعون عنا شيئا من عذاب الله ، كما كنتم تعدوننا وتمنوننا ؟ فقالت القادة لهم : ( لو هدانا الله لهديناكم ) ولكن حق علينا قول ربنا ، وسبق فينا وفيكم قدر الله ، وحقت كلمة العذاب على الكافرين (
    والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها ، كما قال تعالى" : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد" ) غافر : 47 ، 48 ] وقال تعالى : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ) [ الأعراف : 38 ، 39 ) وقال تعالى" : يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا" ) الأحزاب : 66 - 68  .(
   وأما تخاصمهم في المحشر ، فقال تعالى" : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" ) سبأ : 31 - 33 (
   والمقلد أى الذى يتبع شيخه ويقلده تقليدا أعمى مشكوك فى إيمانه بالإجماع.

    فلا تتقمص شخصية غيرك ولاتذُب في الآخرين. لا بأس من اتخاذ القدوة وعلى رأسهم نبينا محمد صلوات الله عليه لكن لا يمنع بأن تكون لنا بصمة خاصة تميزنا عن غيرنا من البشر..والحقيقة كلما تأملت فى حكمة الله جل وعلا فى أن يخلق ملايين البشر ببصمات مختلفة ليست هناك بصمة تشبه الأخرى حتى بين التوائم أدركت أن لذلك معنى ومغزى وهو أن الله جلت قدرته لا يريدنا نسخا مكررة بل يريد كل واحد فينا أن تكون له بصمته الخاصة به..فلو أن الشيخ الشعراوى مثلا كان نسخة مكررة من أبيه لعاش فلاحا يزرع الأرض ولم يصبح عالمًا لكنه رفض حياة القطيع وصمم أن يكون له بصمة مستقلة عن والده وأهل قريته.
 
    يقول الدكتور مصطفى محمود:إن أم كلثوم رفضت أن تقلد غيرها رغم أنها عاشت بين الفلاحين فى بيئة قروية ولكنها مع ذلك كانت لها شخصية مستقلة استطاعت من خلالها أن تصنع لها مجدا وأن تصير سيدة الغناء العربى وكوكب الشرق ولو أنها قلدت أهلها لعاشت تحلب البقرة وتصنع الجبن وتعجن ...إلخ. مثل كل بنات قريتها.

    وكذلك هو رفض أن يكون مثل أقرانه فى قبول كل شئ مسلما به فقد كان يُعْمِل العقل والفكر فى كل ما حوله حتى وصل لما وصل إليه من العلم والشهرة والتميز.
  
    يقول الدكتور عائض القرني في كتابه "لا تحزن" :"إن الناس في طبائعهم أشبه بعالم الأشجار : حلو وحامض ، وطويل وقصير ، وهكذا فليكونوا. فإن كنت كالموز فلا تتحول إلى سفرجل ، لأن جمالك وقيمتك أن تكون موزا، إن اختلاف ألواننا وألسنتنا ومواهبنا وقدراتنا آية من آيات الباري فلا تجحد آياته".
     يقصد أنه لا يجب أن نكون نسخة مكررة من أحد ، كل واحد له شخصيته المستقلة وبصمته المختلفة.

    ولو تتبعنا سير العلماء والفلاسفة والعظماء لوجدنا أنهم رفضوا أن ينقادوا لمجتمعهم وصنعوا لأنفسهم شخصية مستقلة مثل سيدنا إبراهيم عليه السلام حين نشأ فى بيئة كانت تعبد الأصنام وكان أبوه يصنع الأصنام ويبيعها ولكن إبراهيم عليه السلام لم يقلد أبوه فيما كان يفعل وكان يحمل الأصنام ويقول:من يشترى آلهة لا تضر ولا تنفع؟ يعنى سيدنا إبراهيم هو الوحيد فى إخوته الذى رفض التقليد الأعمى لأبيه وأسرته ومجتمعه لذلك اختاره الله ليكون نبيا عظيمًا من أولى العزم.
   
    وكذلك أعظم المخترعين مثل إديسون - مخترع المصباح الكهربائى - وجرهام بل -مخترع التليفون - وغيرهم لم يسيروا مع القطيع وحاولوا تغيير مجتمعاتهم رغم رفض المجتمع لهم.
   ذات يوم سألت بواب عمارتنا:كيف حال أولادك؟ فقال:ابنى الأكبر فى كلية الطب وأنا أحمل همه" فقلت:المستقبل الآن ليس للشهادات بل للحرف والمهن. فقال:"نفعل مثلما يفعل الناس ، الناس يعلمون أبناءهم فنعلمهم مثلهم" صدمنى قول الرجل فإنه إمعة يسيرمع القطيع..فهو لم يقل مثلا أنه يعلم ابنه لإيمانه بقيمة العلم وأهميته ولكنه يقول أنه يعلمه فقط لمجرد أن يفعل مثلما يفعل الناس..وهذا هو للأسف تفكير كثير من الناس الآن.
   كنت ذات يوم أسير أنا وصديقتى وألقت هى بالقمامة فى الشارع وقالت لى لماذا لاتلقين ما فى يدك من قمامة ؟ قلت:أحافظ على نظافة الشارع. قالت:كل الناس يلقون القمامة وهو متسخ بالفعل. فقلت:لا أقلد غيرى فى الخطأ.

وهناك أمثال كثيرة تحض على أن تكون إمعة مثل "لو نزلت بلد يعبدون العجل حش واعطِ له"
والآن ماذا ستختار عزيزى القارئ؟ هل ستختار حياة القطيع أم حياة الصف؟

نرمين كحيلة

ليست هناك تعليقات: