الاثنين، 25 أكتوبر 2010

إنسان للبيع ورحم للإيجار


     
       فيما مضى كان هناك سوقا ً للنخاسة يعرض فيها الإنسان للبيع ذكر أو أنثى طفل أو شاب أو عجوز؛ فيتم الإعلان عن محاسن الجارية وأن لها صوتا ً ساحرا ً يأخذ بالألباب وأنها تقرض الشعر وتغنى وترقص وتجيد كذا وكذا....إلخ. أما هذا العبد فقوى أمين يستطيع حمل الأثقال وكذا وكذا.....إلخ. وكان الإنسان يباع لأعلى سعر فى مزاد علنى. وعلى الرغم من أن هذا السلوك غير إنسانى وغير آدمى ولا يتفق مع الهدف الذى خلقه الله من أجله فقد كرمه الله على سائر المخلوقات ونزهه عن أن يكون سلعة تباع وتشترى أو أن يمتلكه أحد غير خالقه لذا فقد حاول الإسلام تجفيف كل المنابع والروافد التى تؤدى إلى الرق فجعل كفارة معظم الذنوب تحرير رقبة ، إلى أن انتهى تماما ًهذا النظام العقيم..إلا أن هناك فى القرن الواحد والعشرين حناجر ترتفع بالصياح أو لنقل بالنباح تنادى ببيع الإنسان بصورة أبشع وأفظع بكثير من الصورة القديمة التى طالما استقبحناها واشمأززنا منها. فبعدما كان الإنسان يباع جملة واحدة أصبح يباع  قطاعى أى بالقطعة – إذا استخدمنا أسلوب التجار- فهذا يريد قلب وذاك يريد كبد وثالث يريد كلى....وهكذا أصبح الإنسان المكرم عند الله تعالى بنص الآية: "ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم" (الإسراء 17 ) مجرد بهيمة أوعجل يتم ذبحه وتشفيته وأصبحت المستشفيات مجرد سلخانة او محل جزارة ولا نستبعد اليوم الذى تعرض فيه جثة الإنسان بعد ذبحه فى محلات الجزارة ويتم تعليقه على باب المحل مثله مثل البهائم ثم يكتب الثمن على ظهر كل قطعة ويأتى المريض الذى يعانى من فشل كلوى مثلا ً فيطلب من الجزار كلية آدمية ويسأله عن ثمنها فيقول له بكذا ثم يغلف له القطعة التى طلبها فى ورقة فيأخذها المشترى ويذهب إلى الطبيب الذى يقوم بعملية نقل الكلية إليه.

     لقد أدى تطورالعلم واتكنولوجيا والطب إلى كفر الإنسان وتحديه المرض والموت وقاده غروره إلى حد اقتطاع أوصال غيره ليعيش هو بصرف النظرعن مشروعية هذا الفعل وهل هو أخلاقى وإنسانى أم لا ؟ كان الإنسان قديما ً يسلم بإرادة الله -عزوجل- إذا كتب عليه الموت. أما إنسان اليوم فيرفض الموت بشدة ويحاول التغلب عليه بشتى الوسائل حتى لو كانت غير أخلاقية ومخالفة للشريعة.

     ولقد كانت قضية بيع عضو من أعضاء جسد الإنسان أو التبرع به مثار جدل كبير بين العلماء والأطباء بين مؤيد ومعارض ، فعلماء الإسلام يؤكدون : أن بيع عضو من أعضاء جسد الإنسان محرم شرعا ً ولا يجوز وبعضهم  يقول: أن البيع حرام والتبرع  جائز ولكن الأطباء بنظرة الرحمة يؤكدون على أن نقل عضو من جسد إنسان ميت إلى جسد إنسان مريض لإنقاذ حياته هو من الأعمال الإنسانية الجليلة. وحينما سئل الشيخ الشعراوى عن ذلك قال: إن المالك الحقيقى لجسد الإنسان هو الله عزوجل وأنه حينما يتم نقل عضو إلى جسد الإنسان فإنه يرفضه إذن معنى ذلك أن طبيعة جسم الإنسان ترفض هذا العضو ولابد من ربط هذا العضو كل أسبوع بما لا يقوى عليه فرد ولا عائلة وبعد ذلك يظل عاجزا ً عن الحركة ؟!! أما مسألة أن هذا عمل إنسانى نبيل فهذا ليس صحيحا ً إذ أن الله سبحانه وتعالى خلق لنا عينين وكليتين وكبدا ً واحدا ً لماذا اثنان ولماذا واحد ؟! لماذا خلق الله للإنسان كليتين ؟! هل لأن كلية تخدم نصف الجسم ، والأخرى تخدم النصف الآخر ؟! لا ، الكلية الواحدة تخدم الجسم كله. إذن لماذا خلق الله لنا كليتين ولم يكتف بواحدة ؟! هذا معناه أنه إذا عطلت كلية فإن الأخرى تعمل بدلا ً منها. يعنى معناها استعداد لإحداهما إذا تعطلت الأخرى. ثم يواصل الشيخ الشعراوى كلامه فيقول: افرض أنك تبرعت بكلية والأخرى تعطلت ، هل هذا يشكل جناية أم لا ؟ ولكنها جناية مؤجلة بعض الشئ. ولقد أخطأ المفتى خطأ ً كبيرا ً فى قوله أن بيع الأعضاء حرام وزراعتها حلال ؛ فما الفرق بين البيع والتبرع ؟ الفرق فى الملكية فى الاثنين إن أحدهما بمال والأخرى من غير مال فعليك أولا ً أن تثبت الملكية ثم بعد ذلك تقول تتبرع أو لا تتبرع..هل هو يملكها ؟ ما هو حكم الله فى إنسان انتحر؟ حكمه أنه كافر..إذن لو كان يملك ذاته لا يقول له أحد شيئا ً..إذن لا يملك أحد من ذاته شيئا ً، إنما يملكها ربى فالذى لا يملك الذات كلية فلا يملك الأجزاء الجزئية ؛ فهناك شئ يخلقه الله لك لتنتفع به ولا تملكه. ذاتك تنتفع بها ولا تملكها. يقول تعالى:" أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ً فهم لها مالكون " (يس 36 ) فلكى ننتفع بها لا نبيعها ولا نشتريها وقال عن  أعضاء الإنسان:"أمَّن يملك السمع والأبصار"(يونس 10).فهذه انتفاع فقط لا ملكية...فما دامت ليست ملكا ً فلا نبيع ولا نتبرع..لقد ظلوا يبحثون ولكن أخيرا ًعملوا قانونا ً للأطباء يمنع ذلك إلا فى القرابة الأولى بعد أن أصبح الإنسان يقطع ويباع ويوضع فى الثلاجة!!

       والغريب أن كلام الشيخ الشعراوى عندما لم يوافق هوى فى نفوس بعض المنتفعين والمستفيدين من هذه التجارة القبيحة قالوا أن لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة وأن هذا الرأى هو من هفوات الشعراوى. انظروا إلى أى مدى وصل تغليب المصالح على شرع الله ؟

     فى أوروبا تجد فى كل مكان تذهب إليه بطاقة تبرع بأعضائك بعد وفاتك فإذا كنت تريد ذلك فلتكتب بياناتك فى البطاقة وتوقع بالموافقة. ولكن لأنهم ليس لديهم دين أو شرع أو أخلاق تمنعهم من ذلك فهم لا يجرمون هذا الفعل بل يعتبرونه عمل من أعمال الخير ولكن أنسب رد على هؤلاء القوم أو من يسيرون على خطاهم فى بلادنا هو أن الله جلت حكمته قد حرم الأرض على أجساد الأنبياء والصالحين بمعنى أن الله أكرم عباده وخاصته بحفظ أجسادهم بعد مماتهم حيث لا يأكلها الدود ولا تبلى ولا تكون لقمة سائغة لحشرات الأرض وهوامها. فقد روى عن أوس أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"...إن صلاتكم معروضة على قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أَرِمْت ؟ (أى بليت) فقال:إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام". أخرجه أبو داود السجستانى فى كتاب السنن ، والإمام أحمد والنسائى وابن ماجة والدارمى والبيهقى. وكذلك لا تأكل الأرض أجساد الشهداء لكونهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وثبت فى الصحيح أن عمرو بن الجموح ، وعبد الله بن عمرو الأنصاريين دفنا فى قبر واحد يوم أحد فحسر السيل قبرهما فحفروا عليهما لينقلا إلى مكان آخر فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس ، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فكانوا يرفعون يده عن الجرح فترجع كما كانت وذلك بعد ست وأربعين سنة من وقعة أحد. وكذلك المؤذن المحتسب وهو من يؤذن حسبة لله تعالى ، ابتغاء الثواب والأجر من الله تعالى لا طلبا ً للمال والدنيا ، روى مرفوعا ً "المؤذن المحتسب كالشهيد المتشخط فى دمه ، وإن مات لا يدوِّد (بكسر الواو المشددة أى لا يأكله الدود) فى قبره". رواه الطبرانى عن ابن عمرو بن العاص. وكذلك قارئ القرآن المحتسب أى بدون أجر وكان ملازماً لتلاوته عاملا ً بما فيه ومعظما ً له فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا مات حامل القرآن أوحى الله إلى الأرض ألا تأكل لحمه فتقول الأرض:أى رب وكيف آكل لحمه وكلامك فى جوفه".

     وبعد ،، فإن كل هذه الأحاديث تدل على أن من علامات تكريم الله لعباده الصالحين هو الاحتفاظ  بأجسادهم سليمة فكيف نأتى نحن ونقطعها إربا ً للتوزيع منها على المحتاجين ؟ فهذا يخالف حرمة الموتى حيث أن الميت له حرمة بمجرد وفاته يصبح جسده كله عورة لا يجب أن ينظر إليه أحد لذلك تتم تغطيته بالكامل وعندما يوارى الثرى يحرم على أى أحد نبش قبره. إن هذا يعد اختلاطاً فى الأنساب إذ كيف تكون الأعضاء الخارجية لشخص والأعضاء الداخلية لشخص آخر؟ هل أصبح للإنسان قطع غيار مثل السيارة ؟ تعالوا نتصورأننا نقف أمام جسد أحمد مثلا ًوقلب إسماعيل وكبد مصطفى أليس هذا اختلاطا ً مذموما ً فمع من نتكلم ؟ إننا بهذا الشكل نتكلم مع ثلاثة أشخاص لا شخص واحد. وقد أدى ذلك إلى سرقة الأطفال وقتلهم وبيعهم بالقطعة فى سوق النخاسة وأحيانا ً يدخل مريض المستشفى فيتم سرقة أحد أعضائه لأن مريضا ً آخر يحتاجها ، وبذلك فقد فتحنا الباب على مصراعيه لتجارة هى من أخبث وأحط أنواع التجارة ، تجارة الجسم البشرى.

     أما تأجير الأرحام الذى كان إلى وقت قريب محرم فى بلادنا وكان لا يوجد إلا فى الدول الأجنبية فقد أصبح هو الآخر جائزاً وهذه كارثة أخرى فإن الأرحام لها شريعة تحكمها تستحل بكلمة الله وقانونه السماوى وليس من حق أحد استئجارها أو رهنها أو بيعها. وهذا يؤدى إلى اختلاط الأنساب أيضا ً الذى من أجله حُرِّم الزنا فالأم التى يؤخذ منها النطفة لتوضع فى رحم آخر سوف يأخذ منها المولود أشياء كثيرة فلمن ينسب هذا الولد للأم الحقيقية أم للأم المأجورة ؟ إن هذا إهانة للمرأة ما بعدها إهانة ثم إن مَنْى الرجل الذى دخل رحمها دون زواج يعد زنا يقينا ً. وأذكر فى هذا الصدد قصة لامرأة أوروبية استأجرت رحم امرأة أخرى لأن رحمها كان لا يقوى على حمل الجنين واتفقت معها على مبلغ من المال وبعد التسعة أشهررفضت الأم الأجيرة إعطاء الأم الحقيقية ابنها وقالت لها أنها حملته تسعة أشهروأعطته من غذاء جسدها وتعلقت به وأحبته وتنازعت المرأتان على الطفل. فإلى متى سيستمرالعبث والمتاجرة بشرع الله وناموسه فى الكون ؟ لابد من وقف هذه المهزلة قبل أن تنحدر بلادنا إلى منعطف لا يمكن الخروج منه بعد أن تاجرنا فى الأخلاق والدين وكل شئ.

                                                                                   نرمين كحيلة  

ليست هناك تعليقات: