كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً.. توقفت سيارة بيضاء كبيرة أمام منزل صغير بأحد الأحياء الشعبية الفقيرة..نزل منها رجل تبدو عليه أمارات الترف والفخفخة ، فقد كان يرتدى بذلة غالية الثمن ، ونظارة مرصعة بفصوص لامعة جميلة ، وبيده ساعة ذهبية قيمة تضوى بانعكاسات مبهرة ، وفوق شفتيه شارب كبير خطه الزمن على وجهه الكثير التجاعيد. تقدم فى خطوات ثابتة تجاه هذا المنزل المتواضع ، ووقف أمامه برهة ناظرًا إليه فى تفحيص وتمحيص كأنه يستعيد ذكريات ماضٍ أليم.
سأل سيدة كانت تنظر من أحد شرف هذا المنزل عن شقة الحاجة علية فأخبرته أنها بالدور الثالث شقة 6 ..صعد الرجل درجات السلم فى تأفف وضيق ؛ فهذا المكان لا يليق به كرجل أعمال مشهور صاحب الملايين ، ولكنه تحامل على نفسه كى يؤدى المهمة التى جاء من أجلها..أخيرًا وصل إلى الشقة المطلوبة ، ووقف أمامها لحظة تتراجع خطواته إلى الوراء فى تردد ، وسأل نفسه سرًا : يا ترى بعد كل هذه السنين كيف سيقابلوننى ؟ وأخيرًا تشجع وطرق الباب فإذا بفتاة تبدو فى السابعة من عمرها تقف أمامه..نظرت إليه نظرة فاحصة من رأسه إلى إخمص قدميه وهى مشدوهة ، فكيف يأتى إلى منزلهم المتواضع شخص كهذا ، وظنت أنه أخطأ العنوان ثم أفاقت من دهشتها وارتسمت على وجهها ابتسامة عذبة رقيقة وقالت له: من أنت يا سيدى وماذا تريد ؟ لابد أنك أخطأت العنوان! فقال لها: ألا تعرفيننى يا حبيبتى ؟!! قالت: معذرة يا سيدى ربما أعرفك ولكنى لا أتذكرك.
وكانت أختها فريدة بالداخل تسمع تحاورهما ولم يكن صوت الرجل غريبًا عليها ، فأسرعت نحو الباب إلى حيث يقف الرجل لترى من الطارق. ونظرت إليه هنيهة تكاد عيناها تبرز من مآقيها من الدهشة ، ثم مسحت عينيها غير مصدقة لما تراه ، وتذكرت أباها ، تذكرت الأيام التى قضتها معه كأنها سحابات سرعان ما اختفت بعد أن غشاها الضباب وكدر صفو السماء ثم قالت: أبى !!
وتسمرت قدما الفتاه بالأرض لا تعرف كيف تفعل ؟ هل تسلم عليه وتصافحه أم تعانقه أم ماذا ؟ فهى لم تعتد مثل هذه المواقف ، وقد أربكتها الدهشة..وتقدم إليها أبوها وعانقها وضمها إلى صدره فى رفق وحنان..آه ، لقد ظلت طوال عمرها الذى لم يتعدى العاشرة تحلم بتلك اللحظة وتنتظرها..لحظة أن يضمها أبوها إلى صدره كما يفعل أى أب مع أبنائه..كانت ترى رفاقها بالمدرسة وقد أتى كل منهم إلى ابنته بالهدايا والحلوى..حتى العصفور فى عشه كان أسعد حظا ًمنها ، كم تمنت أن تكون مكانه لأن له أب يحنو عليه.
كانت تتمنى أن تطول تلك اللحظة بعد السنوات التى حرمت منها دفء هذه الأحضان الحانية. كانت تريد أن تقول له كلامًا كثيرًا لكن لسانها توقف عن الكلام ولم تستطع أن تنبس ببنت شفة كأن لسانها قد شد بسلاسل من حديد..لم تتكلم الفتاة بل أطلقت العنان لنظراتها لتنم عما بداخلها من حرمان ووحشة واشتياق. وفجأة اكتشف الجميع أنهم ما يزالون واقفين على الباب فقالت فريدة: معذرة يال أبى تفضل بالجلوس.
جلس الأب على مقعد فراشه ليس بوثير ، ونظر إلى البيت يرمقه بعينين دامعتين..كانت جدرانه مشققة عارية من أى زخرف ، وسقفه بالٍ ، والأرض لا يكسوها سوى نوع ردئ من السجاد الرخيص..وزاغ ببصره على صورة أدمت فؤاده كانت معلقة على أحد الجدران..صورة أب يحتضن أبناءه فشعر ببشاعة الجرم الذى ارتكبه فى حق ابنتاه اللتان أصبحتا فى عداد الأيتام وأبوهما مازال فى قيد الحياة منعم بملذاتها ، فلقد صدق الشاعر حين قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم هو من تلقى له أمًا تخلت أو أبًا مشغولاً
ثم وضع الأب ساقه اليمنى فوق اليسرى ، وأخرج علبة كبيرة من جيبه أخرج منها غليونًا باهظ الثمن ، وطفق يشعلها وينظر إليها طويلاً قبل أن يضعها فى فمه كأنه يرى فؤاده وهو يشتعل أمامه حتى يطهره من قساوة ورجس الماضى البغيض..حينئذ مالت هناء إلى أذن فريدة هامسة: هذا السيجار كبير جدًا يذكرنى بإصبع الكفتة. وبدأ الأب يتكلم ويسأل عن أخبارهما وفى أى سنة دراسية هما ، ثم طلب منهما أن يتأهبا كى يخرجا معه للعشاء.
وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة،،،،،،
نرمين كحيلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق