قد يتعجب القارئ لهذا العنوان الغريب ويتساءل: هل يهتم الإسلام بالحنان ؟ نقول له نعم ؛ فالإسلام كله حنان ورقة وعذوبة ورحمة. هل نسينا اسم الله الحنَّان ؟ وهو من أسمائه الحسنى وهو صيغة مبالغة من الحنون أى الذى يحنو على عباده. فإذا كانت الأم تحنو على وليدها فترضعه وتهدهده وإذا كان الحيوان يحنو على صغاره فيداعبهم ويحميهم من أى خطر يحدق بهم فإن الله يحنو على عباده لأنه مصدر الحنان كله فى الأرض والسماء. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين رأى يوما ً امرأة ترضع طفلها:"أتظنون أن هذه ملقية ولدها فى النار؟ قالوا:لا يا رسول الله. قال:الله أرحم وأحن على العبد من هذه المرأة على رضيعها." ولذلك فإن المسلم ينبغى أن يدعو ربه بهذا الدعاء:"يا حنَّان يا منَّان"أى الذى يحنو على عباده فيمُن ويعطى. وفى المسند للإمام أحمد عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:"يبقى الرجل فى النار ينادى ألف سنة:يا حنَّان يا منَّان". وقد وصف الله عزوجل نفسه بهذا الوصف فى القرآن الكريم فقال: "يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ًوحنانا ً من لدنا وزكاة وكان تقيا ً"(مريم 12،13) أى فكان ذلك حنانا ً من الله عليه وقيل أيضا ً أن زكريا أوتى حنانا ً مطبوعا ً فى خلقه وكل من رآه أحبه. وفى الأناجيل هو:"يوحنا" وفى العبرية:"يو" اختصار "يهوه" اسم الله فى العبرية + "حنا" اختصار "حنان" بنفس المعنى فى العربية أى"حنان من الله". والعرب تقول:"حنانك أو حنانيك يا رب" بمعنى واحد أى رحمتك. والحنان فى اللغة هو الرحمة ، والحنَّان بالتشديد:"ذو الرحمة" (مختار الصحاح ، ص 159) وفى تفسير ابن كثير يقول: إن الحنان هو المحبة قى شفقة وميل كما تقول العرب:حنت الناقة على ولدها وحنت المرأة على زوجها ومنه سميت المرأة حنة من الحنية..وحن الرجل إلى وطنه ومنه التعطف والرحمة كما قال الشاعر:
تحن علىَّ هداك المليك فإن لكل مقام مقالا ً
روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر بكتابة عهد لبعض الولاة فأقبل صبى صغير فجلس فى حجره وهو يلاطفه ويقبله ، فسأله المرشح للولاية: أتقبِّل هذا يا أمير المؤمنين ! إن لى عشرة أولاد ما قبلت أحدا ًمنهم ولا دنا أحدهم منى..فقال له عمر:"وما ذنبى إن كان الله عزوجل نزع الرحمة من قلبك..إنما يرحم الله من عباده الرحماء"..ثم أمر بكتاب الولاية أن يمزق وهو يقول إنه لم يرحم أولاده فكيف يرحم الرعية ؟ يقصد أن الرجل غير حنون على أبنائه...أما الحنان مع الزوجة فهو أوْلى وأهم أنواع الحنان ، حيث قال تعالى فى كتابه العزيز:"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ًلتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" (الروم 21) فالمودة هى الحب المقرون بأفعال أما الحب فيمكن ان يكون بدون أفعال. أى المقصود فى الآية الحب والحنان والشفقة. وذكر قبل المودة والرحمة أن المرأة هى جزء لا يتجزأ من نفس الرجل وجنسه وبالتالى فإنه يتحتم عليه كنتيجة منطقية أن يحبها فإن لم يحبها فعلى الأقل يرحمها.
ونجد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان ينبوع حنان جارف مع زوجاته فمثلا ً السيدة عائشة رضى الله عنها كان يغتسل معها فى إناء واحد ويشرب من المكان الذى شربت منه ويطعمها اللقمة فى فيها ، وذات يوم كان الأفارقة يلعبون فأحس أنها تريد أن تشاهد لعبهم فقال لها: تشتهين تنظرين ؟ قالت:نعم. فأقام الرسول (ص) عائشة وراءه وخدَّها على خده أى حملها على ظهره حتى إذا ملت قال لها:اكتفيتِ ؟ قالت:نعم. فقال: فاذهبى أى أنزلها من فوق ظهره. ولا يخفى على أحد أن هذا الوضع مؤذى ومُتعِب للعمود الفقرى خاصة إذا استمر فترة من الوقت ولنا أن نتخيل كم تحامل الرسول الكريم على نفسه فى سبيل إسعادها والترفيه عنها ومن أجل أن يرى البسمة على شفتيها ، وهذا يدل على منتهى الحنان. وحتى عندما وافته المنية مات على صدرها حيث تقول:"مات بين نحرى وسحرى" ما كل هذه الرومانسية والحنان يا رسول الله!! فبدلا ًمن أن يموت وهو يقرأ القرآن أو وهو يصلى يختار هذه الموتة ويستأذن من زوجاته أن يموت فى بيته.
وحتى عمر بن الخطاب الشديد الغليظ كان حنونا ً مع زوجاته فلننظر إليه وهو يتعامل معهن بمنتهى الرقة والحنان ، فهذه إحداهن وكانت تسمى "العاصية"- وسماها النبى (صلى الله عليه وسلم) الجميلة -لا تطيق فراقه ، فإذا خرج مشت معه إلى باب الدار فقبَّلته ولم تزل فى انتظاره حتى يعود. وكانت من نسائه أيضا ً"عاتكة بنت زيد" وهى على قسط وافر من الجمال ومن الدين ومن البلاغة ، رثته حين قُتِل فقالت:
رؤوف على الأدنى غليظ على العدا أخى ثقة فى النائبات منيب
يعنى هى تصف مدى حنانه وحبه ورومانسيته. ولنرى صورة أخرى من الحنان حيث جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم يطلب مشورته فى رجلين خطبا ابنته أحدهما فقير والآخرغنى فقال له: وهواها مع من ؟ فأجاب الرجل: مع الفقير. فقال النبى صلى الله عليه وسلم:لا أرى للمتحابين إلا النكاح...إلى هذه الدرجة يشجع الرسول صلى الله عليه وسلم الحب الحلال الشريف ولا يهون عليه أن يفرق بين حبيبين ! كان من الممكن مثلا ًأن يقول:كيف يحب أحد من أمتى ؟ إن الحب حرام فى الإسلام..لا تطاوع ابنتك يارجل وزوِّجها من الآخر...لأنه أدرك بعقليته المتفتحة وبصيرته المستنيرة أنه ما دام هناك حب- التى هى المودة والرحمة - بينهما فستكون حياتهما سعيدة رغم فقره.
إن الحنان لا يكلف شيئا ًولا يستغرق وقتا ًيكفى أن يأتى الزوج بوردة فى عيد ميلاد زوجته ويقدمها لها ويقول: إن أسعد يوم فى حياتى هو اليوم الذى ولدتِ فيه حيث أن هذه نعمة إلهية منَّ الله بها علىَّ ، سوف أصلى شكرا ً لله أن جمعنى بك. إن هذه الكلمات البسيطة سوف تفعل فعل السحر فى قلب أية زوجة وستجعلها تفعل أقصى ما فى وسعها لأسعاد زوجها وقد أثبتت الدراسات أن المرأة بحاجة لأن تسمع كلمة أحبك فى اليوم خمس مرات وان ذلك يقيها من الجلطة. فإذا قلنا لأحد أزواج هذه الأيام: أين الرومانسية والحنان مع الزوجة ؟ قال: ليس عندى وقت..فهل هناك أحد مشغول أكثر من الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ دعوة واستقبال وفود ومبايعة وغزوات نهارا ً ثم عبادة وقيام ليلا ومع ذلك كان قمة فى الرومانسية والحنان وهذا لا يحتاج لوقت فمثلا ً إذا قدمت الزوجة لزوجها طعاما ً قال لها:"تسلم يديكِ" ثم يقبل يديها ويقول لها:"لا يهنأ لى طعام حى تأكلى معى". وإذا قدمت له شرابا ًقال لها:"ضعى إصبعك بدلا ًمن السكر". وهكذا....إلخ. وليفعل ذلك بنية إرضاء الله سبحانه وتعالى وإحياء سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ولا مانع من بعض الغزل من آن لآخر، ومثالنا لذلك على بن أبى طالب كرم الله وجهه ، حيث دخل على زوجته يوما ًفوجدها تستاك فقال مداعبا ً ومغازلا ًلها: أنه يحسد عود الأراك لملامسته فاها وأنه يتمنى أن يكون مكانه ولو كان أحد غيره لقتله.
إن الحنان هو السُّكَرالذى تحلو به حياتنا المُرَّة وهو الشئ الذى يقطع روتينية الحياة ورتابتها ، وإنه حل لكثير من مشكلاتنا الزوجية المعاصرة. فهل نعود إليه بعد أن غاب عن مجتمعنا فى هذا العصر المادى وافتقدناه ؟ ما أحلى الرجوع إليه !
نرمين كحيلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق