الجمعة، 22 أكتوبر 2010

سيدة نساء العالمين

       كلما قرأت سورة مريم توقفت عندها وتعجبت لهؤلاء الذين ما زالوا يرون أن الولد أفضل من البنت حيث أن هذه الأفضلية ليست لها حيثية معتبرة ؛ ففى كثير من الأحيان تفوق البنت الولد علما ً وأدبا ً ودينا ًوخلقا ً...وهذا ليس رأي شخصى مبنى على التعصب لبنات جنسى ولكنه حقيقة واقعة أثبتها الله تعالى فى كتابه العزيزفهيا بنا نتأمل ذلك المعنى الراقى الجميل فى سورة مريم وآل عمران حيث بدأت القصة الخالدة:
أولا ً: يذكر ربنا عزوجل اصطفائه لعائلة عمران حيث قال:"إن الله اصطفى آدم ونوحا ً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين".(آل عمران 33) ويفرد لتلك العائلة سورة كاملة تسمى باسمها حيث يذكر ابن كثير فى تفسيره أن الله تعالى اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض.
ثانيا ً: يتحدث الله جل وعلا عن أحد نساء هذه العائلة وهى امرأة عمران:"إذ قالت امرأة عمران رب إنى نذرت لك ما فى بطنى محررا ً فتقبل منى إنك أنت السميع العليم".(آل عمران 35)..يقول ابن كثير أن امرأة عمران هذه هى أم مريم عليهما السلام وهى "حنة بنت فاقوذ". قال محمد بن إسحق":وكانت امرأة لا تحمل فرأت يوما ً طائرا ًيزق فرخه فاشتهت الولد فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا ً فاستجاب الله دعاءها فواقعها زوجها فحملت منه فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محررا ً أى خالصا ًمفرغا ً للعبادة لخدمة بيت المقدس ، إنك سميع لدعائى عليم بنيتى. وقيل أنها كانت قد رزقت بنتا ًولكنها رغبت فى ابن فنذرت لئن رزقت ذكرا ً لتجعلنه فى خدمة الهيكل. والقارئ لهذه الآية الكريمة يستطيع أن يستشف أن أم مريم كانت ترغب فى مولود ذكر– وإن كانت لم تذكر ذلك صراحة – لأن خدمة الهيكل كانت وقفا ًعلى الذكور دون الإناث. ولكنها حين وضعت المولود اكتشفت أنه أنثى وكانت هذه مفاجأة غير سارة لها ؛ لأنها تريد تنفيذ نذرها لله...واليهود هم أشد الأقوام عداءً للمرأة وهذا يتمثل فى توراتهم التى تغص بكراهية شديدة للمرأة واتهامها بأنها أصل كل الشرور فى العالم ؛ فاليهودى يصلى كل يوم صلاة شكر لله أن لم يخلقه أنثى ، وبالتالى فقد استبعدوها من كل المناصب وخصوصا ً الدينية لأن المرأة فى الديانة المسيحية واليهودية غير مؤتمنة على الدين فهناك قسيس وليس قسيسة وهناك حاخام وليس حاخامة ، ولذلك فإن الله جلت قدرته ووسعت حكمته قد اختار أن تكون معجزة السيدة مريم فى اليهود خصوصا ًًليثبت لهم أن المرأة جديرة بأن تخدم الدين وتكون أمينة عليه. أما وقوع الاختيار الإلهى على ابنة عمران فكان نتيجة لإخلاص امرأته وشدة حبها لله ، فإذا تصورنا شعور أم تضحى بأمومتها من أجل الله وتحرم نفسها من حضانة طفلتها طواعية حتى ليقال أنها كانت تذهب لرؤية ابنتها من بعيد حتى لا تغلبها عاطفتها فتتراجع عن نذرها ، فبصدق نيتها اصطفاها الله لأنها تحب الله أكثر من نفسها.
ثالثا ً:"فلما وضعتها أنثى قالت رب إنى وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت"(آل عمران) ولنا أن نتساءل هنا عن الحكمة الإلهية العظيمة التى جعلت الله يرزق امرأة عمران بأنثى بدلا ًمن الذكر الذى طلبته حيث أن هذه رسالة إلى كل البشرية بأن الأنثى تستطيع أن تفعل ما يفعله الذكر بل وتكون أفضل منه فجعلها تجلس مجلس الرجال بل وتستغنى عنهم حيث أن الله كان يرزقها بغير حساب وكانت أفضل من كل الرجال الموجودين فى الهيكل. ولنا أن نتخيل نظرتهم لها المستنكرة لوضعها كأول فتاة تشغل هذا المنصب ، وهذا تكريم من الله لها منذ لحظة الميلاد. "وإنى سميتها مريم"(آل عمران 36) حيث أن والدها مات قبل مولدها فلم يشهد ولادتها ولم يسمها بل سمتها والدتها. واسم مريم مكون من مقطعين:"مارى" بمعنى الرب و"أما" بمعنى أمة . وبذلك يكون معنى اسمها: "أمة الرب".."وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"(آل عمران 36) أى عوذتها بالله عزوجل من شر الشيطان وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام فاستجاب الله لها ذلك. عن أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان فيستهل صارخا ًمن مسه إياه إلا مريم وابنها"..."فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا ً حسنا ً (آل عمران 37) أى رضى بمريم فى النذر مكان الذكر، ليس هذا فحسب بل رباها الله تربية حسنة يعنى أشرف على تربيتها بنفسه وهذا تكريم للمرأة ما بعده تكريم ، مثلما يعطى شخص ما هدية لآخر فيقول له: مقبولة منك. "وكفَّلها زكريا".(آل عمران 37) بتشديد الفاء ونصب زكريا على المفعولية أى جعله كافلا ً لها أى كفَّلها الله زكريا ..قال ابن إسحق: وما ذلك إلا لأنها كانت يتيمة ، لتقتبس منه علما ً نافعا ً وعملا ً صالحا ً ولأنه زوج أختها.

رابعا ً:"وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"(آل عمران 42). الاصطفاء الأول هو تكريسها لخدمة الرب بالرغم من أنها أنثى أى اختارها وفضلها وهذا الاصطفاء على الرجال والنساء معا ً، أما الاصطفاء الثانى فهو بشئ قد تميزت به على نساء العالمين وهو الحمل بلا رجل ؛ يعنى جعلها تستغنى عن الرجال فى كل شئ: الرزق والحمل. ويا لا سعادة من يشهد له الله بالعفة والطهر والصلاح ويصطفيه مثلما يشهد أستاذ لتلميذه بالتفوق أو مثلما يشهد الناس لشخص بحسن الخلق فتكون هذه شهادة يعتز بها ذلك الشخص فما بالنا بشهادة الله عزوجل لعبده! إنها شهادة من الخالق الذى هو أدرى وأعلم بخلقته وبسر هذا العبد وجهره."والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين"(الأنبياء 91) يعنى لأنها أحصنت فرجها استحقت تشريف وتكريم الله عزوجل ، وهذه رسالة لكل فتاة تحصن فرجها سوف تكون رفيقة مريم فى الجنة وسوف تكون مكرمة ومفضلة عند الله وشبيهة بها فى طهرها وعفافها. وكذلك أى رجل يحصن فرجه سوف يكون شبيه بيوسف عليه السلام فى طهره وعفته ويرافقه فى الجنة.

خامسا ً:أما ولادة مريم للمسيح عليه السلام فقد أشرف الله عليها منذ بدايتها بنفسه وأرشدها كيف تولد نفسها:"فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا ً منسيا ً(مريم23) "فحملته فانتبذت به مكانا ًقصيا ً"حيث ذهبت إلى مكان بعيد عن أهلها وراء الجبل حياءً منهم ، وفى نفس الوقت حتى تتم الولادة دون أن يصاب المولود بأذى من قومه. "فناداها من تحتها ألا تحزنى قد جعل ربك من تحتك سريًا "(مريم 24) قيل أن الله قد أنطق المولود فور ولادته ليذهب عنها الحزن والقلق. ولا شك أن مريم استعادت رباطة جأشها بعد أن سمعت مقالة وليدها..ثم أوحى الله إليها ما تفعله لتتغذى بعد الولادة."وهزى إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطبا ًجنيا فكلى واشربى وقرى عينا ً(مريم 26 ) قيل أن رطب النخل يناسب النفساء ، وقد سمى الله تعالى سورة كاملة باسم مريم وهذا تكريم آخر لها ثم إنها استحقت أن تكون زوجة لرسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه فى الجنة.

       ومن صور تكريم الله للمرأة أيضا تسمية سورة فى القرآن باسم "النساء" ولا يوجد سورة للرجال. وإذا نظرنا إلى قصص الأنبياء بعين فاحصة فإننا سنلاحظ أن الأنبياء كلهم – أو معظمهم – تربية نساء فمثلا ً السيدة مريم توفى الله والدها قبل أن تولد وعيسى عليه السلام هو تربية أمه مريم وسيدنا موسى عليه السلام كرم الله أمه بأن أوحى إليها بأن ترضعه أولا ً ليذوق طعم لبنها ويميزه عن غيره بعد ذلك عندما تعرض عليه المراضع ثم أوحى إليها أن تقذفه فى اليم. ولنا أن نتخيل موقف امرأة وحيدة ليس معها رجل حيث ذهب زوجها فى السخرة ولا يوجد ذِكر لأى رجل فى حياة موسى له دور مؤثر فى تربيته. هذه المرأة الوحيدة يساعدها الله ويكون معها فى أحلك لحظات حياتها وينقذها من يد  فرعون الطاغية المستبد ثم يطمئنها أنه سوف يقر عينها برؤية موسى عليه السلام مرة أخرى وليس هذا فحسب بل يجعله من المرسلين ويعلى شأنه ثم يأتى دور المرأة الأخرى امرأة فرعون التى تولت تربيته فى المرحلة التالية..أيضا ً السيدة هاجر رضى الله عنها زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام. انظروا كيف كرمها الله أيما تكريم بأن جعل مناسك الحج إلى يومنا هذا سيرًا على خطاها وتذكيرا ًبما فعلت مع إسماعيل عليه السلام ؛ فالرجال حينما يذهبون للحج يسيرون على نهج امراة هى السيدة هاجر، حتى عندما ضرب الله مثلا ً للذين آمنوا كان السامع يتوقع أن يسمع اسم رجل لأن كلمة الذين هى اسم موصول لجمع المذكر، لكنه جاء على عكس التوقع حيث ضرب لهم مثلا ً بامرأة لأنها بألف رجل وكذلك عندما ضرب مثلا ً للذين كفروا ذكر امرأتان امرأة نوح وامرأة لوط ؛ يعنى المرأة متفوقة فى كل شئ :الإيمان والكفر؛ فلو كان الله مفضلا جنسًا على جنس (وهذا لم يحدث) فإن الأفضلية تكون للنساء..وحتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تربى بيد النساء: مربيته أم أيمن الحبشية ثم مرضعته حليمة السعدية ثم أمه فى مرحلة أخرى من طفولته ثم زوجة عمه فاطمة بنت أسد التى نام النبى فى قبرها وكفنها فى قميصه حتى يرحمها الله وهى أم على بن أبى طالب وكان آخر وصايا الرسول بالنساء. ليس هذا فحسب بل إننا إذا نظرنا إلى عالم الحيوان فسوف نجد أن القوامة للأنثى وليس للذكر فعندما خلق الله الممالك العظيمة مثل مملكة النحل ومملكة النمل جعل عليها ملكة أنثى ولم يجعل عليها ملكا ً ذكرًا وسمى سورتان كاملتان باسم هاتين المملكتين اللتين تتكونان من إناث فقط ويحكمهما ويقودهما إناث ولا مكان للذكور فيهما إلا من أجل التناسل فقط ولفترة محدودة يتم بعدها قتل الذكر بلا رحمة لأنه ليس له عمل أو فائدة. بل ويوحى الله إلى النحلة ويخاطبها بصيغة المؤنث أن تتخذ من الجبال بيوتا ًومن الشجر ومما يعرشون ، ويجعل من العسل الذى تنتجه شفاءً للناس وإعجازًا لهم ويجعل لهذه المملكة نظام وقوانين تفوق قوانين البشر وممالكهم. وكذلك مملكة النمل تقودها أنثى. انظروا معى إلى النملة التى سمعها سليمان عليه السلام وضحك من قولها ، لقد قام بتحويل الجيش كله بعيدًا عنها وقومها احترامًا لمشاعرها. وهذا يدلنا على أن الأنثى مكرمة فى كل أحوالها فى عالم الإنسان والحيوان على حد سواء.  
   والذين يقولون بأن آدم هو أصل الخليقة لأنه خلق أولا ً ثم خلقت حواء من ضلعه لإسعاده وإضفاء السرورعليه فإن هذا الكلام ليس صحيحا ً لأن حواء إنما خلقت لمشاركة آدم وكان ذلك مقدرا ً منذ البداية ولم يكن فكرة طارئة لله فالأصل فى الوجود ليس آدم ولكنه سبقها ليكون قواما ً عليها والقوامة هنا ليست فرض السيطرة والإذلال والتحكم ولكن القوامة هى الرعاية والعناية بشؤون المرأة. وإذا كانت المرأة قد خلقت من ضلع أعوج فهذا معناه أن أصل العوج فى آدم ، وقد قال الشاعر:لولا اعوجاج القوس ما رمى..ومن ثم فإن هذا الاعوجاج فى حواء هو ميزة وليس عيبا ً وعلى الرجل أن يتحمل المرأة إذا انفعلت أو غضبت أو غلبتها عاطفتها فهذا هو المعنى الحقيقى للقوامة لأن الرجل بطبيعته يحكم عقله أكثر من قلبه مثلما فعل النبى مع السيدة عائشة حين احتكما لأبى بكر فهم أن يضربها فمنعه الرسول(ص) وقال له:"يا أبا بكر ما دعوناك لهذا" وكذلك عندما ذهب رجل إلى عمر يشتكى له زوجته فوجد زوجة عمر ترفع صوتها عليه. والقصة معروفة وما يهمنا منها موقف سيدنا عمر أو بمعنى أصح فهمه الصحيح للقوامة حيث قال أن على الزوج أن يصبر ويتحمل زوجته لأنها تطهو له طعامه وتغسل له ملابسه وتربى له أولاده وو.......وكل ذلك تفضلا ً منها وليس مفروضا ً عليها. وحتى عندما سأل رجل الرسول صلى الله عليه وسلم من أحق الناس بحسن صحابتى قال له:أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك ولو لم يسأله الرجل للمرة الرابعة لاكتفى الرسول بالأم ولم يذكر الأب. إلى هذا الحد المرأة مكرمة سواء كانت ابنة أو أم أو زوجة!!

     أقول هذا لأنه كانت لى صديقة حكت لى كيف أن أهلها كانوا يتلقون العزاء لأنها ولدت بنتا ً وانقلب البيت مأتماً يوم ميلادها ، وأخرى رفضت أمها أن ترضعها لأنها حزنت أن المولود أنثى وكانت تتمنى الذكر فهل نأخذ عبرة وعظة من قصة السيدة مريم ؟ أم نسير على نهج الجاهلية الأولى ؟
                                                                 نرمين كحيلة

ليست هناك تعليقات: