"ولع فى نفسك بنصف جنيه". هذه العبارة المضحكة المبكية انطلقت من فم بائع ولاعات متجول معلنًا عن سلعته.وقد استوقفتنى وتأملتها وحاولت تفسير مغزاها. فى البداية ضحكت حتى كادت ضحكتى أن تسمع المارَّة ثم قلت لنفسى سرًا:"ماذا يقصد هذا الرجل بهذه العبارة العجيبة ؟ هل يقصد مجرد الدعابة والمزاح لجذب الزبائن أم أنه يقصد شيئا ًآخر؟". أعتقد أن العبارة لها مغزى أعمق بكثير من مجرد المزاح إنها تعكس أوضاع المجتمع بشكل ساخر كما هى عادة المصريين دائمًا. إنه يقصد أنه فى ظل غلاء المعيشة ، وطوابيرالعيش ، والفقر، والظلم ، والديكتاتورية ، والفساد المستشرى فى كل مكان.....إلخ. أصبح الموت أو بمعنى أصح الانتحار هو الاختيار أو البديل الأفضل للمواطن المصرى ، ولكن لأن الموت هو أيضًا من الأشياء التى قد تكون باهظة الثمن لذا فإن هذا البائع يطمئن الناس إلى أن الموت الآن أصبح متوافرًا فى الأسواق وبسعر رخيص فى متناول أى مواطن. إنه لن يكلفه سوى نصف جنيه فقط ، بعدها تنتهى آلامه وأحزانه فى هذا العالم ويذهب إلى عالم آخر ليس فيه مكان للمحسوبية والوسائط والرشاوى. وأخذت أتخيل أنه فى القريب العاجل سيأتى اليوم الذى نقرأ فيه فى الجرائد إعلانات من شركات تضمن للمواطن أفضل وأسرع وأرخص وسيلة للموت حيث تقدم كل شركة أوكازيونات وتخفيضات هائلة خاصة إذا كان الانتحار للعائلة كلها بدلا من الفرد الواحد مما يشجع الناس على أن يحجزوا مقاعدهم من الآن فى العالم الآخر ، ثم يأتى الاتفاق بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين الزوج وزوجته وأولاده على أن يكونوا معًا فى الآخرة كما كانوا معًا فى الدنيا عسى أن تكون حياتهم هناك أفضل ويتم ملأ استمارات بعدد الأشخاص الذين يريدون الانتحار والوقت الذى يرغبون أن يموتوا فيه ، ثم تعلق الحكومة لافتات فى كل مكان تكتب عليها بالخط العريض:"انتحار لكل مواطن"..وفى كل محافظة يتم كتابة جملة :"محافظة الاسكندرية مثلا ًأو القاهرة تتمنى لكم انتحارًا سعيدًا هادئا ". وربما يكون هذا هو الشئ الوحيد الذى تنجح الحكومة فى التخطيط له ببراعة فأفضل حل لمشاكل المواطنين هو التخلص منهم ، وهو حل عظيم أيضًا لمشكلة الانفجار السكانى ، فبدلا ًمن أن يسقط المواطن فى بلاعة مفتوحة فى الشارع ، أو يحترق قطار موديا ًبحياة ألف مواطن أو يسافر شباب إلى ليبيا وإيطاليا ويغرقون فى الطريق ، أو يُقتل المواطنون أثناء جهادهم المقدس فى طابورالعيش ، أو ينتحر أب لأنه لا يستطيع دفع مصاريف المدرسة لأولاده ، أو تنتحر أم لأنها لا تستطيع أن تعول أبناءها بعد وفاة والدهم أو ينتحر شاب تخرج فى كلية السياسة والاقتصاد وكان ترتيبه الأول لأن وزارة الخارجية رفضت تعيينه سفيرًا لأنه غيرلائق اجتماعيًا ، أو تموت عروس قبل زفافها بأسابيع قليلة فى مترو الأنفاق بسبب الاهمال...إلخ. كل هذه الطرق هى طرق عشوائية ترفضها دولتنا الموقرة لذا فقد وضعت نظامًا يقنن عملية الانتحار حتى نكون بحق دولة نظامية تحترم حق المواطن فى الانتحار.
هل تذكرون قصة سيدنا موسى عليه السلام الوارد ذكرها فى القرآن ؟ عندما وجد موسى رجلا من بنى إسرائيل يستغيث به ضد رجل مصرى يتشاجر معه فوكزه موسى فقضى عليه ، انظروا إلى موقف الفرعون إزاء مقتل رجل مصرى بسيط من عامة شعبه ، لقد أمر الفرعون بالبحث عن قاتل هذا المواطن المصرى فى كل مكان وتقديمه للعدالة والقصاص منه فجاء رجل لموسى ناصحًا إياه أن يهرب وقال له:"إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك".( القصص 20) وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن الشعب المصرى بجميع فئاته له قيمة كبيرة وكرامة لدى الفرعون ، إنه مستعد أن يحارب وأن يسخر كل أجهزة الدولة من أجله.. بسبب مقتل مصرى واحد قامت الدنيا ولم تقعد واضطر موسى إلى الهرب لينجو من بطش الفرعون ، أما المصرى اليوم فليس له قيمة.. يُقتل كل يوم فلا يسأل عنه أحد. أليس هذا هو الفرعون الكافر الذى نلعنه صباح مساء ونحن نقرأ القرآن ؟ فماذا يفعل الآن رئيسنا المسلم لحفظ كرامة المصريين؟ إن الفرعون الكافر كان يعطى كل مواطن حقه كاملا من الخبز والدقيق والشعير والعدس والفول والبصل والثوم وكان الشعب المصرى فى رفاهية لا نشهدها نحن الآن فى ظل المجتمع الإسلامى ، كان المصرى يجد الوظيفة المناسبة فى قصر الفرعون بعد التخرج ويعفيه من الضرائب ولم يكن هناك بطالة ليس لقلة العدد ولكن لاهتمام الحكومة بالشعب والحرص على مصلحته. كان الفرعون يبنى مدينة سكنية تسمى المدينة الهرمية لموظفيه الذين يعملون فى الهرم وكل عامل يجد المسكن والمأكل والملبس والعلاج المجانى على حساب الدولة.
ونعود إلى قصة موسى فنجد أنه فى اليوم التالى وجد نفس الرجل من بنى إسرائيل يتشاجر مع مصرى آخر ويستنجد به ، وبدون أن يستفهم موسى عليه السلام عما حدث ويحقق فى الأمر ليعلم من المخطئ ثم يحكم بينهما ، اندفع فى حماية الإسرائيلى والدفاع عنه لمجرد أنه من قومه رغم أنه كان هو المخطئ وكان يتشاجر كل يوم مع المصريين بالباطل فاليهودى هو اليهودى فى كل زمان ومكان. ولما تبين لموسى أنه اندفع دون روية فى نصرة الظالم على المظلوم استغفر الله وعاهده على ألا يكون بعد اليوم ظهيرًا للمجرمين. ونلاحظ تعاطف - ولا أريد أن أقول تحيز- سيدنا موسى الشديد مع قومه رغم سوء أخلاقهم فهو عندما تكلم عن المصريين قال: "ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فى الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم"(يونس 88) أما عندما يتكلم عن بنى إسرائيل فهو يطلب لهم الرحمة والمغفرة وعدم المؤاخذة."واختار موسى قومه سبعين رجلا ًلميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ...فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة وفى الآخرة إنا هدنا إليك". (الأعراف 156،155)
وذكرتنى ظاهرة انتحار المصريين فى عصرنا الحالى ببردية ترجع إلى الأسرة الثانية عشرة من عصر الانتقال الأول وهو عصر سادت فيه الفوضى والفساد والانحلال الأخلاقى والاضطرابات السياسية والقلاقل بما يشبه هذا العصر وكأن التاريخ يعيد نفسه ، فما أشبه اليوم بالبارحة.هذه البردية عبارة عن حوار يائس من الحياة مع روحه يطلب منها أن تغادر جسده لأنه يريد الانتحار بسبب فساد العالم من حوله فيقول:"مع من أتحدث اليوم ؟ الإخوة صاروا أشرارًا وأصدقاء اليوم لا يعرفون للحب معنى ، إن رغبة التملك تملأ قلوب البشر ويحاول كل منهم الاستيلاء على خيرات جاره.....إن لقاء الموت اليوم كالبرء بعد المرض.....كالجالس تحت مظلة لينعم بالهواء العليل....كاشتهاء الإنسان العودة إلى ذويه". فهل أصبحنا فى عصر الموت فيه أرخص وأفضل من الحياة ؟
نرمين كحيلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق