الاثنين، 25 أكتوبر 2010

أمة اقرأ لا تقرأ


      من الأشياء المؤسقة بل والمحزنة أن مصر تتفوق على غيرها من الدول فى ارتفاع نسبة الأمية بعد أن كانت موئلا ً للعلم والنور وقبلة للعلماء والمفكرين..فى عاصمتها أعظم جامعة فى العالم ، يفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب ؛ فمصر منذ فجر تاريخها تقدس العلم وأهله ، وليس أدل على ذلك من أن قدماء المصريين قد جعلوا للمعرفة ربا ً يعبد سموه "تحوت" ؛ فهو ملهم الحكمة ورسول العلم وهو الذى ابتدع اللغة وبلغ الكلمة وهو الذى يرعى الكتَّاب ( أصحاب العلم والمعرفة ) ويحميها وهو الذى يبتهل إليه المعلمون ويضرع إليه طلاب المعرفة وعشاق الثقافة أن يتولاهم برعايته ويؤيدهم ويلهمهم الحكمة والمعرفة ، فمنذ أوائل عصور الدولة القديمة ظل أحد الأوضاع الأثيرة لتماثيل الكبراء ما يمثلهم فى سمة الكتاب وفى جلسة التربع التى كانوا يتخذونها والقراطيس منشورة بين أيديهم يسطرون فيها. وإن مدلول لقب الكاتب كان يشرف كبار الشخصيات أن يحتفظوا به دائما ً، فكان التلميذ والمعلم يتخذان هذا اللقب على حد سواء حيث كان يرادف لقب المتعلم أو المثقف. ويمكن أن نستشهد هنا بما كان للقب الكاتب عند العرب من معنى واسع ففيه يقول ابن الإعرابى:"الكاتب عندهم العالم" ، وقد قال تعالى :"أم عندهم الغيب فهم يكتبون". وفى كتاب الرسول إلى أهل اليمن قال:"بعثت لكم كاتبا ً من أصحابى" أى عالما ً. لأن الغالب على من كان يعرف الكتابة أن عنده العلم والمعرفة ، وكان الكاتب عندهم عزيزا ً وفيهم قليلا ً..وعرف المصريون إلى جانب تحوت ربة للكتابة والتسطير سموها "سشات" وكانت موكلة بالتسطير والتسجيل والحساب كما كانت ربة خزانة الكتب. واعتبر المصريون معرفة الكتابة والتسطير مظهرا ً من مظاهر النشاط الإلهى الخلاَّق لأن الله خلق الكون بكلمة وصورة النطق بها (أى الكتابة) مقدية من أجل ذلك لأنها صورة من القدرة الإلهية ؛ ومن هنا جاء تقدير من يكتب لأن الكتابة عندهم شئ عظيم جدًا وقد يكون من أبلغ الأدلة على تقديس المصريين للكتابة أن يقدسوا أدواتها فهذه سيدة تتعبد مصلية لأداة الكتابة من قلم ودواة وها هى الأداة مرفوعة إلى السماء بأيدى اثنين من المعبودات ومن حولها أركان الدنيا الأربعة تعبدها وهذا يعتبر وسام من أوسمة الشرف يحمله علية القوم وبه يفخرون.

      ولا شك أن المعرفة والعلم والثقافة كانت فى عقيدة المصريين أسمى ما يمكن أن يصل إليه المرء فى حياته ، كما كانت سبيل الخلود بعد مماته ، فاسم العالم فوق الأسماء ، وعلمه نور من السماء ، كما كانوا يكرهون الجهل وينفرون منه ، بل كانوا يعدونه قذرًا ينبغى أن يزال بالتعليم كما يغسل القذر بالماء..ونجد نفس التقديس للكتابة فى الإسلام حيث قال تعالى فى سورة القلم:"ن والقلم وما يسطرون" ؛ فقد أقسم الله بالقلم (وهو أداة الكتابة) ثم بالكتابة نفسها. و"ن" معناها قلم فى اللغة الحبشية ، والبراهين على تقدير المصريين للعلم وأهله ، ونفورهم من الجهل والجهال كثيرة لا يكاد يحصيها العد فمن ذلك أن يقال للصبى:"لا تكن بغير لب كمن لم يتعلم" ، أو قولهم:"إن الأحمق من عدم المعلم ، ومن لم يعلمه أبوه كان تمثالاً من حجر". فالمصريون لم يروا فى التعليم لوناً من أوان الترف ولكن كان التعليم عندهم كالطعام والشراب (مثلما قال طه حسين أن العلم كالماء والهواء)..حسبنا أن نرى من صور حياتهم كيف أن الولد الجاهل كان حملا ً ثقيلا ًعلى أبيه ، كان له مصدر شقاء وتعاسة فى حياته ، يطأطئ الرأس خجلا ً من بنوته ، ويضيق به حتى ليتمنى له الموت أحيانا. والواقع أنه ما من شعب قديم آثر التعلم وأهله أو الكتابة والكتاب بإكبار وتمجيد أكثر من المصريين القدماء ، كما كانت الحكومة تعفى موظفيها المتعلمين من الخدمة الإجبارية والضرائب فى الوقت الذى لم تكن تعفى فيه مواطناً آخر منها تشجيعا ً منها على التعلم فكان الداعى إلى الدراسة يعتبر نفسه داعيا ً إلى أقوال الرب والمنصرف عن الدراسة يعتبر نفسه منصرفا ً عن أقوال الرب. وتضمن كتاب الموتى فصلا ً يسمى فصل دعاء المحبرة واللوحة يؤكد فيه المتعلم لحارس تحوتى أنه أتاه صالحا ًمجداً مزودا ً بالكتب حتى تكون شفيعا ً له فى الآخرة وكان الإله أوزير يغضب إذا أبحر إليه جاهل وهذا هو عين ما نجده فى الإسلام فليس من قبيل المصادفة أن تكون أول آية نزلت فى القرآن هى:"اقرأ" وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من دعا إلى محو الأمية حين طلب فى إحدى الغزوات أن يفتدى كل أسير نفسه بمحو أمية عشرة من الصحابة وذلك فى حد ذاته تقديرا ً منه لأهمية العلم والتعلم فالأمية بالنسبة له شرف أما بالنسبة لنا عار حيث يقول (ص):"من سلك طريقاً يلتمس فيه علما ً سلك به طريقا ً من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضا الله عنه ، وإن العالم ليستغفر له من فى السموات ومن فى الأرض ، حتى الحيتان فى جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد ، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب". وقال أيضا ً:"يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء".

      وفى بعض ما تقدم ما يقرب بين أثر التدين المصرى القديم وبين أثر التدين الإسلامى فى الحض على طلب العلم وفى إيثار المتدينين توجيه أبنائهم إليه:"طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة". وقد أخذ معلم يبصر تلميذه بسمو هذا المبدأ قائلا ً:"إن كتابا ً واحدا ًلأجمل من قصر مشيد"...أليس من العيب أن تكون أمة اقرأ لا تستطيع القراءة ولا الكتابة وخاصة فى مصر؟ ومن هنا فإننى أدعو كل فرد متعلم فى المجتمع إلى تعليم غيره ممن حرموا من نعمة التعليم وهذه مسؤولية يسأل عنها الله كل متعلم عن علمه ماذا عمل به ؟  فللعلم زكاة وزكاته أن يعمل العالم على توصيله للناس. لا بد أن يتحول هذا المشروع إلى مشروع قومى وليس مقصورا ً على فصول محو الأمية بل يجب أن يقوم به الصديق لصديقه والجار لجاره والأولاد لأمهم وأبيهم وأن يكون فى كل عمارة وشارع ومسجد فصلا ً واحدا ً على الأقل لمحو الأمية. إن الأمية وباء مثله مثل الكوليرا والإيدز والطاعون يجب أن نستأصل شأفتها من المجتمع يا أمة اقرأ!!!

                                                                                  نرمين كحيلة

ليست هناك تعليقات: