وقد اجتهد العلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء فى تفسير الحب وسببه ، فلماذا يشعر رجل بانجذابه إلى امرأة بعينها ورغبته فى البقاء معها وحبه لها دون بقية الناس ؟ وكذلك المرأة لماذا تشعر بانجذاب إلى رجل بعينه وتحبه؟ ما سر ذلك الحب ؟ فتصور اليونان أن للحب إلهًا يسمى "كيوبيد"على هيئة طفل يرمى بسهامه قلوب الناس فيصابون بالحب.. وكان أول المفسرين للحب هو "أريستوفان" ، الشاعر الكوميدى المشهور حيث يزعم أن الكائنات البشرية لم تكن فى أصل فطرتها كما هى اليوم: ذكرًا وأنثى ، بل كانت ذكرًا وأنثى ، وخنثى تجمع بين خصائص النوعين ، وكان كل فرد من هذه الأنواع الثلاثة مستديرًا على هيئة كرة ، وله أربع أيدى وأربع أرجل يمشى عليها جميعًا ، وله أربع آذان ووجهان ، وهكذا تزدوج فيه بقية الأعضاء. وركب الغرور هذه الكائنات ، فثارت فى وجه الآلهة ، وغضب زيوس ، الإله الأكبر ، فشطر كل فرد فيها شطرين عقابًا ونكالا ًلها ، ومضت هذه الأشطار يبحث كل منها عن شطره رغبة فى الاتحاد به كما كان الشأن فى أصل النشأة ، وهذا هو سبب الحب ، فهو فى حقيقته شوق وتعطش إلى استرجاع السعادة المفقودة.
وقد ألف الإمام ابن حزم الظاهرى كتابًا فى الحب باسم "الزهرة" روى فيه عن الرسول صلى الله عيه وسلم قوله:"الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف". ثم حاول تفسير هذا الحديث (متأثرًا بكلام بعض الفلاسفة اليونان) أن الله عز وجل خلق كل روح مستديرة الشكل على هيئة كرة ، ثم قطعها نصفين ، فجعل فى كل جسد نصفًا ، وكل جسد لقى الجسد الذى فيه نصفه كان بينهما عشق بسبب تعارفهما قبل بدء الخليقة.
وفى كتابه "طوق الحمامة فى الألفة والألاف"يقول ابن حزم: أن الحب اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة فى هذه الخلقة فى أصل عنصرها الرفيع... وإن كل نفس تبحث عن نصفها الآخر حتى تجده ، فتنجذب إليه كالمغناطيس والحديد وكالنار والحجر ، فحبه إنما هو تجديد لحب قديم فى النشأة الأولى ، ومن الطريف أن نجد هذه الفكرة عند بعض شعراء الحب العذرى إذ يقول:
تعلق روحى روحها قبل خلقنا ومن بعد ما كنا نطافًا وفى المهد
فزاد كما زدنا فأصبح ناميًا وليس إذا متنا بمنتقض العهد
ويقول ابن حزم فى باب "علامات الحب" أن للحب علامات تميز العاشق عن غيره بحيث يستطيع هو أن يعرف العاشق من تلك العلامات التى تظهر عليه ومنها مثلا ًإدمان المحب النظر إلى حبيبه ، والإسراع بالسير إلى المكان الذى يكون فيه ، وبَهْْت (دهشة وحيرة) يقع ، وروعة تبدو على المحب عند رؤية من يحب فجأة ، ومن علاماته أيضًا حب الوحدة والسهر ونحول الجسم من غير مرض.
وقد قال الشاعر واصفًا الحب الذى جمع بينه وبين حبيبته:
ولو أنَّا على حجرٍ ذبحنا جرى الدميان بالخبر اليقين
أى أنه لو ذبح هو وحبيبته فسوف تتتحد دماءهما وتتلاقى حتى بعد الوفاة لتخبر الناس بما كان بينهما من حب.
وللحب عند العرب مراتب أولها: الهوى وهو الميل إلى المحبوب ، ويليه الشوق وهو نزوع المحب إلى لقائه ، ثم الحنين وهو شوق ممزوج برقة ، ويليه الحب وهو أول الألفة ، ثم الشغف وهو التمنى الدائم لرؤية المحبوب وهو ماحدث لامرأة العزيز مع يوسف عليه السلام "قد شغفها حبًا" وقيل أن الشِغاف هو غلاف القلب.. وقال ابن عباس رضى الله عنهما فى تفسير تلك الأية:"دخل حبه تحت الشغاف" ويليه الغرام وهو التعلق بالمحبوب تعلقًا لا يستطيع المحب الخلاص منه ، ثم العشق وهو إفراط فى الحب ويغلب أن يلتقى فيه المحب والمحبوب ، ثم التتيم وهو استعباد المحبوب للمحب ، يقال قد تيمته حبًا ، ويليه الهيام وهو شدة الحب حتى يكاد يسلب المحب عقله ، ثم الجنون وهو استلاب الحب لعقل المحب مثل مجنون ليلى.
ومن أجمل القصص التى تروى عن الحب قصة جارية لهارون الرشيد ، قد عشقت رجلا ًوكانت تقابله فى قصر هارون الرشيد ليلا ًبعد أن ينام الناس ، ولما علم الخليفة بأمرها عزم على قتل حبيبها فتوسلت إليه ألا يقتله حتى تراه فأجابها إلى طلبها وقبل أن تراه وقفت أمام الخليفة وفقأت عينيها فقال لها هارون الرشيد:"ماذا فعلتِ بنفسك يا مجنونة ؟" فقالت:"فقأت عينى حتى لا أرى حبيبى فأنقذه من الموت" فقال لها هارون الرشيد مشفقًا عليها:"لو كنت أعلم أنكِ تحبينه إلى هذه الدرجة لعفوت عنه" ثم وهبها قصرًا لتعيش فيه مع حبيبها وهى عمياء". ومن هذه القصة يتضح أن المحب المخلص مستعد أن يضحى بأغلى ما عنده وهو عينيه من أجل حبيبه.
وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة،،،،،،
نرمين كحيلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق