الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

رحلة نرمين إلى البلد الأمين (الحلقة الأولى)

     كان السفر إلى الأراضى المقدسة حلمًا يراودنى ويلح علىَّ إلحاحًا شديدًا ، لذا فقد واظبت على الدعاء لمدة ثلاث سنوات متوالية وكثفت الدعاء فى شهر رمضان وليلة القدر ووقفة عرفات وكل المناسبات الدينية والأوقات التى تستجاب فيها الدعوة وكنت دائمًا أقول:" اللهم إنى اشتقت إلى أراضيك المقدسة وتاقت نفسى لزيارة بيتك الحرام وزيارة رسولك الكريم فاجعلنى أذهب إليها "..وذات يوم فوجئت بقريب لى يهاتفنى من مكة حيث يقيم ويعمل ويقول لى:"إنى أدعوك لقضاء شهر رمضان معى وسوف تعجبك الصلاة فى الحرم ، وما عليك إلا أن تعطى جواز سفرك لخالتك وهى سوف تدبر إجراءات السفر"..فعلمت أن الله عزو وجل قد استجاب دعائى فقد كنت أدعوه دائمًا باسمه "المجيب".
      كانت أمى رحمها الله تأمل فى مرافقتى فى هذه الرحلة ولكن شاءت حكمة الله أن تكون تلك الرحلة فى ذلك التوقيت بعد وفاتها نظرًا لأن الحزن كان يخيم علىَّ وكنت أجتر أحزانى وأتذكرها فيعتصر الألم قلبى لفراقها ، وشعرت أن تلك هى دعوة من الله أن لا تحزنى ولا تألمى فسوف أحضرك إلى بيتى لأخفف آلامك. فالله لا يترك أحدًا فريسة لآلامه وأحزانه فهو القائل لأم موسى عليه السلام لا تخافى ولا تحزنى إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين وهو القائل للمسلمين فى إحدى الغزوات أنهم كما يألمون فإن الكفار يألمون مثلهم وهكذا فعل مع كل الأنبياء والصالحين. وظللت أحلم بذلك اليوم وأستعد له ، وذهبت لأشترى ثوبًا أبيض أرتديه للعمرة وبينما أجرب هذا الثوب إذ جاءنى إحساس أنى عروس وأن هذا الثوب هو ثوب الزفاف أى أن فرحتى كانت تفوق فرحة أية عروس يوم زفافها ، ورأيت وجه أمى فى المرآة وكأنها تنظر إلىَّ مسرورة وقد تحقق أملها ، لكن دموعى انهمرت حين تذكرت أنها كانت تود مرافقتى فى هذه الرحلة المباركة ودعوت لها بالرحمة والمغفرة ، واختلطت مشاعر الحزن بالسعادة فى مزيج غريب لم أشعر به من قبل.

     حان وقت السفر ، وسافرت إلى القاهرة حيث ذهبت إلى بيت خالتى واغتسلت وصليت ركعتى الإحرام بالعمرة ولحق بنا خالى الذى كان محرمًا لى.. وذهبنا إلى مطار القاهرة ، كانت تلك هى المرة الأولى التى أركب فيها الطائرة وكانت تختلط بداخلى مشاعر الفرحة مع الخوف ، فليس من السهل أن يجد الإنسان نفسه طائرًا فى الهواء ومعلقًا بين السماء والأرض..وبعد إجراءات طويلة ومعقدة حان وقت الصعود للطائرة ، كانت هذه هى المرة الأولى التى أغادر فيها مصر ، ومن تصاريف القدر أن يكون أول خروجى من مصر هو للأراضى المقدسة..

    دخلنا فى أنبوب طويل قيل لنا أنه بديل عن سلم الطائرة حيث نصل مباشرة إليها. كان معظم المسافرين من الفلاحين وكان جميع الركاب معتمرين ، وبمجرد أن دخلت النساء أخذن يلبين ويقلن:"لبيك اللهم لبيك" ثم سمعت الزغاريد تدوى فى كل أنحاء الطائرة ، فتعجبت مما أسمع.
  
     جلس ثلاثتنا فى المقعد الذى يتوسط الطائرة وأخذت أتفقدها وأتطلع إلى جنباتها مبهورة بما استطاع الإنسان أن يصنع ويتوصل إلى أقصى درجات العلم والتقدم بفضل الله. فهذه الطائرة ما هى إلا محاكاة للطيور التى خلقها الله وهى مصنوعة بنفس الكيفية فلها جناحين وذيل ورأس تشبه تمامًا جناح الطائر وذيله ورأسه. فالإنسان لم يأتِ بجديد بل هو اقتبسها من خلق الله تعالى.. وترحمت على عباس بن فرناس صاحب أول فكرة للطيران حيث كان ينظر إلى الطيور وهى تطير وتعلو فى السماء فتاقت نفسه إلى الطيران فحاول أن يطير فصنع جناحين من الريش وألصقهما بيديه بمادة شمعية لاصقة وأخذ يطير ولا شك أنه كان يشعر بسعادة غامرة وهو يحقق حلمه لكنه عندما اقترب من الشمس ذاب الشمع بفعل حرارتها وسقطت الأجنحة وسقط هو معها على الأرض ، ساعتها اتهمه الناس بالجنون وسخروا منه. لكن الفكرة ظلت تراود الإنسان ولم يثنه فشله الأول عنها فظل يحاول ويحاول إلى أن تم اختراع الطائرة. إن هذه القصة نستخلص منها العديد من الحكم:
أولاً: أن الإنسان لا يجب أن ييأس أبدًا مهما فشلت فكرته بل عليه أن يحاول تنفيذها بطريقة أخرى فإذا كان هو نفسه غير قادر على الطيران لأن تركيبة جسده غير مؤهلة لذلك فإنه بإمكانه أن يصنع وسيلة تشبه جسد الطائر يستطيع أن يركبها.

ثانيًا: أن أية فكرة عظيمة لا بد أن تقابل بالاستنكار والسخرية فى البداية كما حدث مع عباس بن فرناس وغيره من المخترعين العظام مثل إديسون مخترع المصباح الكهربائى لكن هذا لا يجب أن يثنى صاحب الفكرة عن اختراعه لأن الناس عندما ترى تحقيقها على أرض الواقع سوف يرحبون بها ، فالناس قديمًا كانت تتهم من يفكر فى الطيران بالجنون أما الآن فهى تنظر إلى الطائرة بكل احترام وتقدير دون تعجب.

ثالثًا: أننا لا بد أن نشكر الله العلى القدير أن هدانا لفكرة الطيران التى وفرت الوقت والجهد والتى استمدها الإنسان من مخلوقات الله ولولا الله ما عرفنا تلك الفكرة. حيث كان الإنسان قديماً يسافر شهورًا طويلة على ظهر جمل أو حصان ، وكان ذلك شئ شاق للغاية.

    قلت لنفسى سرًا إننا الآن بين كفى الرحمن ومن الممكن أن تقع بنا الطائرة فوق جبل أو بحر أو...... وتذكرت الآية الكريمة التى تقول:"والطير صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن" أى أن الطيور حين تطير وتحلق فى السماء وتفتح جناحيها ثم تقبضها فى تلك اللحظة يمكن أن تقع من هذا الارتفاع الشاهق فتموت ولكن الله يمسكها فلا تقع وهذه هى عظمة وقدرة الله أى أن الطائر لا يطير بمهارته وقدرته على الطيران ولكنه يطير فقط برحمة الله تعالى وكذلك الله يمسك السماء أن تقع على الأرض. لذا فقد دعوت الله قائلة:"اللهم كما أمسكت جناحى الطائر أن يقع وكما أمسكت السماء أن تقع على الأرض امسك هذه الطائرة". ثم قيل لنا:يرجى من السادة الركاب ربط الأحزمة وأخذ المضيفون والمضيفات يشرحون لنا كيف نستعمل طوق النجاه والمنطاد والأكسجين فى حال تعرض الطائرة للسقوط فى بحر أو بر. وبدأ مشرف الرحلة يتلو دعاء السفر ونحن نردد وراءه جميعًا.

     كان طاقم الطائرة من الأجانب وهى تابعة للخطوط الجوية السعودية وكانت المضيفات يرتدين زيًا أشبه بالحجاب. بدأن يرششن فى الهواء سائلا لتعقيم الطائرة خوفًا من مرض انفلونزا الخنازير. ورأيت الفلاحات يجلسن على أرض الطائرة ويأكلن ويرمين بقايا الطعام على الأرض ومنهن من تحمل حقائبها على رأسها فذكرنى هذا المشهد بالفلاحة فى القرية تحمل القدر(البلاص) على رأسها وهناك من تنادى على زوجها بلهجة ريفية بصوت مسموع قائلة :"يا أبو موسى" وزوجها يبادلها النداء قائلاً :"يا أم موسى". فجاءنى إحساس أنهم جالسون على المصطبة فى الكَفر وليس فى طائرة وكانت المضيفات ينظرن إلى الركاب فى امتعاض ودهشة. وحاولن أن يثنينهم عن تلك الأفعال دون جدوى. فقد طلبن منهم الجلوس فى المقاعد وربط الأحزمة وإغلاق الهواتف المحمولة لأنها تشوش على الطيار فلا يستطيع رؤية الطريق لكن أحدًا لم يسمع.
   وفى لحظة إقلاع الطائرة وصعودها فى الهواء أحسست بقلبى يهوى إلى قدمى ونظرت فوجدت البيوت والمساجد والنوادى وكل شئ على وجه الأرض قد صغر حجمه وأنا أنظر إليه من أعلى. وفى الميقات قيل لنا احرموا هنا فأحرمنا جميعًا ونوينا العمرة. كان اليوم هو سبعة رمضان وكان من المقدر أن تقلع الطائرة فى الرابعة والنصف لكنها أقلعت فى السادسة مساءً قبيل المغرب بقليل وقدموا لنا وجبة مكونة من سندوتشات لحم بارد وجبن وعصير تفاح وشاى وتمر وماء فتعجبنا أن يكون هذا هو طعام الصائمين. وقيل لنا أنه قد حان أذان المغرب ونستطيع أن نأكل وكان المشهد جميلاً ونحن نأكل جميعًا فى وقت واحد وأننا نجمع بين عبادتين هما الصيام والعمرة.

وأخيرًا بعد ساعتين من الإقلاع وصلت الطائرة إلى مطار الملك عبد العزيز.
وإلى اللقاء فى حلقة قادمة،،،،،
                                                             نرمين كحيلة

   
   


ليست هناك تعليقات: