الأربعاء، 3 نوفمبر 2010

رحلة نرمين إلى البلد الأمين (الحلقة الثالثة)

     بعد انتهاء الصلاة يممنا وجوهنا شطر الكعبة حتى نطوف سبعة أشواط وكنت غير مصدقة أنى سوف أرى الكعبة أخيرًا ولأول مرة فى حياتى. قال لى خالى معاذ:"هل هذه هى المرة الأولى لك التى ترين فيها الكعبة ؟" قلت:"نعم" قال:"إن لك دعوة مستجابة لا ترد عند النظر لأول مرة إلى الكعبة". وبدأت أستعد للطواف بعدد من الدعوات كان الأقارب والأصدقاء يحملوننى أمانة الدعاء لهم بها ولكثرة عددهم خشيت أن أنسى أحدًا منهم فقلت:"اللهم إن كنت قد نسيت أحدًا فإنك لا تنسى فأجب له دعوته وآتِه مطلبه وسؤله ".

    كان قلبى يرتجف كلما أحسست أنى أقترب من الكعبة فلم أكن أصدق أنى سأراها رأى العين وأقترب منها وألمسها..وأخيرًا وصلت إليها ونظرت لها فإذا بها تسحر العيون والألباب والأفئدة ، وعند النظرة الأولى قلت:"اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة وإجلالاً" ثم دعوت لنفسى بأن يمتعنى الله بالصحة والعافية ما حييت وأن يشفينى من جميع الأمراض ، ثم بدأت أدعو لغيرى وعند النظرة الأولى للكعبة اقشعر بدنى ودمعت عيناى وأحسست برجفة تملأ كل جسدى وتذكرت كيف فعل أصحاب الفيل وحملة أبرهة الأشرم الحبشى لهدم هذه الكعبة وكيف جعل الله كيدهم فى تضليل وأرسل عليهم طيرًا أبابيل وكيف أن هذه الكعبة غالية عند الله ومعظمة ومكرمة ومشرفة وكيف دافع الله عنها ضد المعتدين وأن فوقها البيت المعمور تطوف به الملائكة فى السماء كما يطوف الناس فى الأرض وأنها مركز الأرض وأننا نتجه إليها فى كل صلاة ورأيت الناس يصلون حولها فى دائرة كاملة الاستدارة وكان هذا المشهد عجيبًا وتذكرت معاناة النبى الكريم مع أهل مكة وكيف جاء فاتحًا منتصرًا وأنه كان حول الكعبة 360 صنمًا فكان الرسول يشير إلى كل صنم فيسقط إلى أن تطهرت الكعبة من الأصنام. وكيف انتصر الله لدينه وهؤلاء الناس الذين جاءوا من كل أصقاع الأرض لزيارة ذلك المكان لهو نصر لدين محمد النبى العربى وتشريف للعرب الذين أتى الناس قاصدين بلادهم. قال لى خالى محمود سنبدأ الطواف عند العلامة الخضراء المضاءة باللون الأخضر وستشيرين إلى الحجر الأسود وتقولين باسم الله ، الله أكبر. ونظرت إلى الحجر الأسود لأول مرة ورأيت الناس يتقاتلون للوصول إليه وتقبيله وتمنيت لو أنى اقتربت منه وقبلته لكن ذلك كان متعذرًا للغاية فاكتفيت بالإشارة إليه. وتذكرت قول أحد العلماء أن هذا الحجر هو أحد أحجار الجنة أنزله الله إلى الأرض وأنه كان أبيض فاسود من أخطاء العباد وذنوبهم وأنه يد الله الممدودة على الأرض يصافح بها من يشاء وهو تجديد لعهد الإيمان مع الله ومبايعة بالسمع والطاعة. وتذكرت كيف كاد العرب يقتتلون بسبب أن كل قبيلة تريد أن تنال شرف وضع هذا الحجر فى مكانه فاتفقوا على أن يحتكموا إلى أول من يدخل فكان النبى صلى الله عليه وسلم فأشار عليهم أن يأتوا بعباءة فيضعون فيها الحجر فتمسك كل قبيلة بطرف ثم يضعه النبى فى مكانه وهكذا حمى العرب من الاقتتال ولم تكن هذه مصادفة بل تدبير الله عز وجل..ويقف عند الحجر الأسعد حارس يحرسه.
  
    كان الرجال يطوفون جنبًا إلى جنب مع النساء وهذا يدل على أن الاختلاط فى الاسلام ليس حرامًا إذا كان مشروطًا بالالتزام والأخلاق ، وسمعت صوت أحد الطائفين من غير العرب يقول:"الهَمْدُ للهِ ربِ الآلمين ، اللهم إكْبَل توبتى يا هَىْ يا كَيوم برَهمَتِكَ أستغيث" فتبسمت ضاحكة من قوله وقلت سبحان الله كل مسلم يعبد الله بلغته والله يسمع ويفهم كل اللغات بل إن هذه هى حكمته التى اقتضت أن تختلف ألسنتنا وألواننا ليرينا آيته فى خلقه قال تعالى:"واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لآيات للعالمين" (الروم 22) وقال أيضًا:"ومن الناس والدواب والأنعام مختلفًا ألوانه" (فاطر 28) وتذكرت اسم الله البديع فعلى الرغم من أننا كلنا أبناء آدم وعلى الرغم من أننا كلنا لنا لسان وعينين وشفتين إلا أن كل منا يختلف شكله وطوله ولونه عن الآخر فلو أن ماكينة هى التى خلقت لجاء كل الناس بنفس الطول والحجم والشكل ولكن لأن الله جلت قدرته هو الخلاق العظيم فقد اختلف الناس اختلافا كبيرًا وأخذت أسبح بحمد الله وعظمته وأنظر إلى السماء وقد غطاها السواد وغشاها الليل البهيم وأقلب وجهى فى السماء وأقول:"سبحانك أيها الخلاق العظيم يا بديع السموات والأرض أنا أستشعر آيتك فى خلقك". وكانت كل جالية يرأسها شخص يدعو ويدعو وراءه أتباعه ويؤمنون على دعائه. لكن ما أحزننى حقًا هو أنى رأيت رجلا غير عربى يتحدث فى هاتفه المحمول ويضحك وهو يطوف فقلت لنفسى والغضب يتملكنى:"إن مدة الطواف لا تتجاوز العشر دقائق أو الربع ساعة ألا يصبر هذا الرجل هذه الدقائق المعدودة حتى ينتهى الطواف ثم يتحدث كما يحلو له فى هاتفه المحمول" أما أنا فقد أغلقت هاتفى حتى أستمتع بتلك اللحظات الجميلة.

    ومن أجمل المشاهد التى رأيتها أيضًا هو مشهد رجل يحمل ولده الصغيرعلى كتفه ويطوف به وقد ألبسه ملابس الإحرام ورجل آخر يحمل ابنته الصغيرة فوق كتفه ويطوف بها وهى تنظر إلى الناس ببراءة شديدة.
كانت الكعبة متشحة بالسواد وعليها بعض الكتابات الدينية بالقصب الأصفر ولها باب أصفر أيضًا وأحسست كأنها عروس قد تزينت فى أبهى حلة لاستقبال زائريها ومحبيها ومدعويها وكان الناس يتشبثون بكسوة الكعبة ويضعون أيديهم عند باب الكعبة ويدعون ربهم من صميم قلوبهم كأنهم يلوذون بالكعبة ويلتجؤون إليها ويستغيثون بها من شرور الدنيا والناس وسمعت سيدة تقول:"يا عزيز يا جبار أنت تعلم كم ظُلمت فانتقم لى ممن ظلمنى وقد جئت إلى بيتك أستغيث بك". وهناك سيدة تريد أن تقبِّل الكعبة فنهرها الحارس واجتذبها بعنف من ملابسها وصاح بها: هذه بدعة ابتعدى يا امرأة ورجل آخر يصلى عند حجر إسماعيل قطع الحارس صلاته وجذبه من ملابس إحرامه وقال له فى عنف وغلظة: هذا طريق لا يصح أن تصلى فيه وتشغله. فقلت:سبحان الله أهل مكة فيهم الغلظة والشدة منذ أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا.أليسوا هم الذين آذوه وأخرجوه وعذبوا أتباعه ؟
قالت لى خالتى: امسكى بيدى جيدًا ولا تبتعدى عنى لئلا تتوهى وسط هذا الزحام ثم أردفت: ما رأيك لو اقتربنا من الكعبة ولمسنا كسوتها فرحبت بالفكرة ولما أمسكت بكسوة الكعبة قالت لى خالتى: شميها. ولما شممتها وجدتها معطرة بالمسك والعنبر وينبعث منها رائحة من أجمل ما يكون وعلمت بعد ذلك أن هذا العطر يباع فى الأسواق على شكل بخور وزجاجات عطر وأن كل جزء من الكعبة له عطر مختلف عن الآخر فمثلاً الركن اليمانى يختلف عطره عن الحجر الأسود وهذا وذاك يختلف عطره عن كسوة الكعبة. فاشتريت بعضًا منه لنفسى وأهديت غيرى ثم قلت لخالتى: لماذا يكسون الكعبة بالسواد ولا يكسونها بالأخضر مثلاً هل باقى الألوان حرام فضحكت خالتى وقالت: اعتاد الناس على اللون الأسود ومع ذلك لا تحزنى فالمرة القادمة سيكسونها بالفوشيا...فضحكنا معًا.

    وتذكرت مقولة سائق تاكسى كنا قد ركبنا معه كان يقول أن مصر هى أولى البلاد بالإشراف على الكعبة والمناطق المقدسة فقلت: وأين يصنعون كسوة الكعبة؟
قال: هناك مصنع يصنع خصيصًا هذه الكسوة وتتجدد كل سنة.
قلت:رحم الله الأيام التى كانت الكسوة تصنع فى مصر ثم ترسل للسعودية فى موكب ضخم واحتفالية كبرى وكان هذا شرف عظيم لمصر.
كان المحمل تعبيراً عن الارتباط الروحي والوجداني والعقائدي بين المصريين والكعبة المشرفة وكان الاحتفال بخروجه من مصر متجهاً إلي الحجاز احتفالاً شعبياً ورسمياً، وكان المحمل وطريق الحج دليلان علي قوة الحكم في مصر، واستتباب الأمن وفي موروثنا الشعبي القديم مقولة «الكسوة بركة.. ودوام لحكم من قام بها»، وربما جاء مولد هذا التقليد مما فعله الفاروق عمر بن الخطاب الذي يقول لنا الأثر الشريف إنه كسا الكعبة بالقماش المصري «القباطي»

    وبعد انتهاء السبعة أشواط صلينا ركعتين فى مقام إبراهيم ثم ذهبنا بعد ذلك للمسعى لكى نسعى بين الصفا والمروة.

      وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة،،،،،،
                                                     نرمين كحيلة 
       




ليست هناك تعليقات: