الجمعة، 12 نوفمبر 2010

ليالى الأنس فى أسوان (الحلقة الثامنة)

      كان شقيق زوج أختى يعمل مهندسا ً زراعيا ً فى جزيرة النباتات وقد دعانى وصديقتى إلى زيارتها ، وكان الاتفاق على أن نتقابل عند مرساها على الكورنيش بجوار نادى التجديف وهناك استقلينا مركبا ً شراعيا ً إلى الجزيرة فهى وسيلة المواصلات الوحيدة ، كان المشهد رائعا ً، والقارب يخترق عباب النيل والسماء الزرقاء من فوقنا ، ساعتها فقط تذكرت آية الله تعالى فى أن تسير السفن بكل ما تحمل من أثقال فوق الماء ولا يستطيع دبوس واحد أو مسمار أن يطفو فوقه ، ولذلك قال الله تعالى:"ألم ترَ أن الفلك تجرى فى البحر بنعمة الله ليريكم من آياته" (لقمان :31) "وآية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون"(يس :36) "ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" (فاطر :35) "الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره" (الجاثية :45). ولم أملك إلا أن أسبح الله طوال فترة سير المركب ، حتى وصلنا إلى الحديقة النباتية ، وهى تقع على جزيرة فى وسط النيل أمام مدينة أسوان ، وتضم مجموعة نادرة من النباتات الاستوائية وشبه الاستوائية ولذا فهى تعتبر من أهم المراكز البحثية فى مصر وواحدة من أندر الحدائق النباتية فى العالم. ومشينا فى طريق مبلط بجرانيت أسوان الوردى وهو يميز كل مشاياتها ، ويظلل هذا الطريق على جانبيه النخيل الملوكى بلونه الأبيض الرخامى وقد رأيت أعلى النخل وهو يتساقط على الأرض - أو هو فى طريقه إلى السقوط - فقيل لى أن هذه النخلة لا تحتاج إلى تقليم بل هى تقلم نفسها بنفسها بطريقة ربانية وعندما يسقط أحد أجزائها العلوية فإنه يحدث صوتا ً يشبه صوت التصفيق ، ربما لكى تنذر من يجلس تحتها حتى يغادر المكان أو ربما لبكاء النخلة على جزء منها فارقها..ورأينا متحف الأحياء النباتية داخل الحديقة ، وكان رائعا ً هو الآخر.

      وفى أثناء سيرنا داخل الحديقة سمعنا صوتا ً عُجابا ً لم نسمعه من قبل ولما سألت عن هذا الصوت قيل لى إنه صوت طائر أبى قردان فقلت على الفور:"صديق الفلاح؟". ولم يسعنا أنا وصديقتى إلا أن نضحك لهذا الصوت ، إن صوته يشبه صوت الإنسان وهو يقول لا لا..وحاولت صديقتى تصوير ذلك الطائر وتتبعه بآلة تصويرها لكن الأشجار كانت أغصانها متشابكة وغزيرة فحالت دون رؤيته ، ولكنه عندما نزل إلى الأرض أصبح مرئيا ً..

    ونظرا ً لموقع الحديقة المتميز وهدوئها فإنها تعتبر مرتعا ً لكثير من الطيور المهاجرة والمحلية فقد رأينا مثلا ً الهدهد وذكرنى ذلك بسيدنا سليمان عليه السلام وكيف كان يفهم لغته وأحببت هذا الطائر لأنه ورد بالقرآن الكريم ، ثم هو طائر إيجابى لم يرضَ أن يشرَك بالله فى أرض سبأ ، كم هو جميل ويدل شكله على الألفة والطيبة والمودة ، وأطلت النظر إليه وأنا أسبح الله.

     ورأيت الغراب بلونه الأسود يمشى على الأرض ، وتذكرت أن الناس يتشاءمون منه ، ربما لشكله ولونه ، بل وصوته المنكر الذى يبعث على الحزن ، فقلت:"سبحان الله طائران متجاوران فى حديقة واحدة أحدهما أبيض جميل والآخر أسود كئيب..." وكانت هذه فرصة عظيمة لممارسة عبادة من أحب العبادات إلى قلبى وهى عبادة التفكر فى خلق الله. ورأيت اليمام والبلبل والعصفور.وكانت أصوات الطيور المختلفة تتشابك وتختلط فى وقت واحد فتعزف سيمفونية رائعة من الأنغام يعجز بيتهوفن أو باخ عن الإتيان بمثلها.

       ورأينا شجرة تسمى الشجرة الفضية لأن أوراقها عجيبة الشكل إذا أمسَكْت إحدى أوراقها تجدها خضراء وإذا قلبت الورقة من الجهة الأخرى تجدها فضية ، فتعجبت وتذكرت اسم الله البديع فقد أبدع فى الخلق. وقد رأينا ثمرة عجيبة لم نرَ مثلها من قبل وقيل لنا أنها فاكهة استوائية لا تباع فى الأسواق اسمها:"أوجينيا" ، لونها أحمر كالفراولة وطعمها شهى جدا ً ، وذكرنى هذا بالجنة التى وعد الله المتقين بأن فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وأن فاكهتها لا مقطوعة ولا ممنوعة وأن بعضها لا نعرفه فى الدنيا. وتأملت عظمة الخالق إذا كان قد أبدع صنع هذه الحديقة الدنيوية الممتلئة بأشياء لم نسمع عنها ولم نرها من قبل فما بال الجنة الأخروية إذن ؟! ، وشعرت بأن هذه هى أحسن جائزة أعدها الله لعباده الطائعين حيث قال عنها أنها الفوز العظيم. وتخيلت نفسى وإذا بى قد قامت القيامة ودخلت جنتى مع الطائعين وأخذت أطوف بين جنباتها كما أفعل الآن ، ودعوت الله أن يجعلنى من أهلها.

     ورأيت شجرة ثمارها لها طعم البرتقال وشكل البامية واسمها :"برتقالة بامية". وشجرة أخرى اسمها "عين الخروف" لأن ثمارها تشبه عين الخروف تماما ً.ورأينا شجرة القرفة والمستكة وجرحت الشجرة بقلمى فأفرزت سائل هو المستكة فشممت رائحتها فوجدتها زكية جدا ً، فجعلت أمسح على ملابسى..ورأيت شجرة الأراك التى يستخرج منها السواك وكم بلغ حزنى حين علمت أن الناس فى الأعياد يأتون إلى الحديقة ويتسلقون الشجرة ويجلسون فوقها ليلتقطوا صورة حتى انكسرت الشجرة ومالت ، فقلت:"كيف يجرؤ إنسان على تشويه ذلك الجمال؟". ورأيت شجرة ذيل السمكة وثمارها تشبه ذيل السمكة فعلا ً. ورأيت شجرة عجيبة أوراقها على شكل رئة الإنسان ، وشجرة أخرى أوراقها خضراء مخططة باللون الأصفر ، وأخرى أوراقها خضراء وبها نقط  صفراء ، وأخرى أوراقها لها جهة حمراء قانية والناحية الثانية لونها أخضر. ولم أستطع منع نفسى من الاحتفاظ ببعض هذه الأوراق وتجفيفها لتكون ذكرى جميلة عندما أعود إلى الأسكندرية.  وقلت:"لو أن إنسانا ً رسم ولون هذه الأوراق والأشجار لأخطأ فى توزيع الألوان لكن الله جل وعلا قد أحسن وأتقن كل شئ خلقه وجعل نسب كل الألوان والرسومات بحكمة بالغة ، أليس عجيبا ً أن هناك من ينكر وجود الله بعد كل ما رأى ؟ وتذكرت قوله تعالى:"هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه".إن الله يتحدى أن يأتى أعظم رسام أو فنان تشكيلى أو نحات بمثل تلك الروعة والجمال !!

     وبعد انتهاء تلك الجولة السريعة عدنا من حيث أتينا إلى نادى التجديف وجلسنا هناك بعض الوقت نتجاذب أطراف الحديث ونعلق على ما رأينا فى الحديقة ، وكان أحد فروع "ومبى" قد افتتح فى ذلك اليوم فى النادى فجاء لنا شقيق زوج أختى - باعتباره من رؤساء مجلس إدارة النادى – بثلاث وجبات لى ولصديقتى ولأمى. وكان المنظر رائعا ً ونحن نجلس على النيل بين الطبيعة الخلابة.. ثم قررنا الذهاب إلى السد العالى. وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة ،،،،                    
  نرمين كحيلة




ليست هناك تعليقات: