الاثنين، 8 نوفمبر 2010

رحلة نرمين إلى البلد الأمين (الحلقة الحادية عشر)

     وفى تلك الأثناء جاءتنى رسالة على هاتفى المحمول من شقيقتى تقول: انقذى قطك فإن مصيره إلى الشارع فهاتفتها وأنا غاضبة فإذا بها تقول أن صديقتى التى ائتمنتها على القط  - واسمه لطيف – لا تريده فى بيتها لأنه يثير القلق والتوتر فى البيت..وغضبت من أختى لأنها تريدنى أن أترك مناسك العمرة والجو الروحانى الجميل الذى أنا فيه وأتفرغ للبحث عن مأوى للقط بينما كان بإمكانها أن تحل هى المشكلة بكل سهولة فماذا أفعل أنا هل أسافر مصر وأترك العمرة ؟ ورفعت كفى للسماء ودعوت الله أن يحفظ لى قطى فهو بمثابة ابنى وقلت:"اللهم إنى تركت ديارى وبلادى من أجلك فاحفظ لى قطى وتغمده برعايتك فإنى استودعته عندك إنك لا تضيع عندك الودائع واجعله مخلصًا لى ككلب أهل الكهف". فإذا بفكرة ألهمنى بها الله عزوجل وهى أن أطلب من صديقة أمى التى هى فى مكانة خالتى أن تحتفظ بالقط عندها حتى أعود..ففعلت وشكرت الله وحمدته أن استجاب دعائى..ورغم أن هذه الدعوة فسرتها أختى بأنها تفاهة إلا أنى أرى أن ارتباط الإنسان بالحيوان هو نوع من الشفقة والرحمة يضعها الله فى قلب العبد والدليل على ذلك سيدنا أبو هريرة كان يحب القطط ويربيها ولذلك سمى أبو هريرة ودخل رجل الجنة بسبب كلب سقاه كما أنى تذكرت مسلسل الرجل والحصان الذى قام بتجسيده محمود مرسى وحارب الدنيا من أجل حصانه الذى يحبه وتعرض للفصل من عمله و العقاب لأنه كان ضابطا أو عسكرى فى الجيش على ما أذكر لكنه أشفق عليه أن يضرب بالرصاص وأخذ يهرب به من مكان إلى آخر.
 
     كان اليوم هو آخر يوم لنا فى المدينة وكان الأوتوبيس سيتحرك بعد صلاة الظهر قاصدًا مكة.. ذهبنا لصلاة الظهر فى الحرم ثم توجهنا إلى الفندق لنغتسل استعدادًا للإحرام لأننا نوينا العمرة مرة أخرى. وفكرت أن أعمل هذه العمرة لأمى رحمها الله فهى قد أوصت بذلك فى وصية مكتوبة حيث قالت: من يذهب إلى الحج أو العمرة من أقاربى فليحج ويعتمر لى. وحتى لو لم توصى بذلك فإنه برًا بها وحبًا لها كنت سأعتمر بنية أن أهب الثواب لها.
    وكانت الرحلة كلها ستعتمر، منهم من سيعتمر لوالده ومنهم من سيعتمر لوالدته وكل حسب نيته أما خالتى فقد نوت العمرة لأمها التى هى جدتى واتفقت مع خالى وقريبنا أن يعتمروا معها بنفس النية.. وكان علينا أن نواصل رحلة العذاب اليومية فى الحمام وانتظار دورنا خاصة وقت الأزمات كالتى نحن فيها الآن وقلت لخالتى: "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم" فلا بد أن يتعلم الإنسان أن الترف والنعيم زائل وأنه لا بد أن يوطن نفسه على أن يعيش عيشة خشنة فى بعض الأحيان. ولهذا حرم على المسلمين الأكل والشرب فى أوانى الفضة والذهب لأن هذا ترف زائد يبغضه الاسلام. والحمد لله فأنا قادرة على أن أتكيف مع أى وضع. والحمد لله أيضًا أن معاناتنا ستنتهى اليوم.
    
    المهم أنى اغتسلت أنا وخالتى وخالى وحزمت أمتعتى واستعددنا للرحيل. ولكن الأوتوبيس تأخر فى التحرك حيث انطلق فى الساعة الثانية ظهرًا. وحين بدأ فى التحرك وجدت الناس كلهم أجمعين فى الأوتوبيس يلوحون بيدهم ويقولون: السلام عليك يا رسول الله والله سوف توحشنا ويعز علينا فراقك وفراق مدينتك ، اللهم عودة ، ثم سالت دموعهم فوق وجناتهم حزنًا لفراق النبى ولما رأيت ذلك المشهد تأثرت أنا الأخرى وبكيت أنا وخالتى. وأخيرًا وصلنا أبيار على حيث توقف الأوتوبيس هناك وقال لنا مشرف الرحلة: سوف نحرم من هنا ، هيا انزلوا وتوضؤوا وصلوا ركعتى الإحرام فى هذا المسجد. ففعلنا وكان الحمام الملحق بالمسجد مزدحمًا أيضًا وتوضأنا بشِق الأنفس. واشترينا بعض المأكولات الخفيفة لنفطر عليها فى الطريق. وسار بنا الأوتوبيس ساعات طويلة حتى توقف فى مكان المفروض أنه استراحة ولكن مظهره لا يدل على ذلك إطلاقًا. كان ذلك ساعة المغرب قبيل أذان المغرب بقليل وكان العطش قد استبد بنا فى ذلك اليوم الحار والحقيقة أنى كنت أعانى من العطش الشديد طوال أيام رمضان هناك وكنت أفطر على ثلاث أو أربع زجاجات مياه دون أن آكل شيئًا ودعوت الله أن يجعل عطشى هذا وقاية لى من عطش يوم القيامة وأن يجعله فى ميزان حسناتى. ووجدت المشرف ينزل من الأوتوبيس ثم يصعد وفى يده صناديق المياه التى توزعها مجانًا شركة الراجحى لوجه الله على الصائمين المارين من هذا الطريق ، وأيضًا وجبة إفطار صائم مكونة من تمر وعصير وبسكويت. فقلت: يا سلام والله الدنيا مازالت فيها خير. فقالت خالتى: طبعًا ، قال النبى صلى الله عليه: الخير فىَّ وفى أمتى إلى يوم القيامة..
      وبعد أن أكلنا وشربنا واصل الأوتوبيس رحلته حتى أظلمت الدنيا وكانت الساعة تقترب من الحادية عشر مساءً أى أنه سار ما يقرب من تسع ساعات..وحين وصلنا اتصل بنا قريبنا ثم جاء لاستقبالنا بسيارته وسألنا هل تمتعتم فى رحلتكم إلى المدينة؟ وهل كان الفندق خمسة نجوم ؟ فنظر كل منا للآخر ثم قلنا: كانت رحلة جميلة وأيضًا الفندق جيد إذ أننا لم نشأ أن نقل له الحقيقة حتى لا يغضب لنا ويثأر ممن فعل بنا ذلك. فقد كان خالى قريبنا هذا كريمًا كرمًا حاتميًا فمائدته دائمًا عامرة بالخيرات. حتى عندما يذهب إلى فندق فإنه لا يرضى بأقل من خمسة نجوم. ومع كل ذلك زاهد فى الحياة يعلم أن الدنيا فانية فيكثر من الخيرات. أذكر أنه ذات مرة كنا فى الحرم المكى فكان عمال النظافة تقريبًا عددهم يقارب الخمس عشرة فردًا فأخذ يضع فى يد كل واحد منهم بضعة ريالات وكان الحاضر يعلم الغائب فتكاثروا حوله حتى أخذوا كل ما معه وكان سعيدًا يبتسم فى وجوههم. وذات يوم اشترى لنا آيس كريم فرآه فتى صغير فقال له: أنا جائع لم أفطر بعد فقال له: اسبقنى إلى هذا المطعم ثم نزل من سيارته واشترى له وجبة غالية الثمن. فقلت: حتى هنا يوجد متسولين ما شاء الله ! أصبح التسول ظاهرة عامة فى الوطن العربى كله وكثر عدد الفقراء. وكان خالى معاذ كثيرًا ما يدعونا لنتسحر فى المطاعم الفاخرة مثل كنتاكى وبيتزاهت وفروج الطازج وشاورما وغيرها لأننا غالبًا ما كنا نمكث فى الحرم حتى مطلع الفجر. وكنت أضطر لأن أتوضأ فى حمام المول (برج زمزم) وكان الدخول بخمسة ريالات نظرًا لموسم العمرة فى رمضان والإقبال الشديد على الحمام وكنت أغتاظ لأن هذا استغلال لحاجة الناس. كان الحمام مزدحمًا ازدحامًا شديدًا وقد اصطفت النساء فى طوابير فى انتظار دورهن فى الدخول ، ووجدت سيدة تبتسم لى وتقول: من أين جئتِ ؟ فقلت: من مصر؟ فربتت على كتفى وقالت: بارك الله فيكِ. فقلت وحضرتك منين ؟ فقالت: من المغرب. فقلت: أهلا بكِ.
 ولكنى لاحظت أنهم يكتبون على محلات العصير كلمة عصيرات بدلا من عصائر وكلمة تموينات بدلا من تموين وشاورمات بدلا من شاورما. وأن معظم الرجال يطيلون شعورهم فتارة يضفرونه وتارة أخرى يضعون طوقًا فوق رؤوسهم.
     ولكنى ذات يوم شعرت بسخونة وقشعريرة تسرى فى جسدى وشعرت بأعراض البرد فقلت لخالى محمود أنا أريد أن أذهب إلى البيت لا أستطيع المكوث للفجر إنى أشعر بدوخة فقال لى:هل نذهب بك إلى المستشفى ؟ فقلت: لا أنا أريد الراحة فقط..والحق أنى خشيت أن تكون هذه هى انفلونزا الخنازير فرقدت فى فراشى لمدة ثلاثة أيام متتالية ولم أذهب معهم إلى الحرم لصلاة التراويح. وكنت أريد ألا أعدى أحدًا ثم أخذت دواءً للبرد كنت قد أحضرته معى من مصر ولما انتهى اشترى لى خالى محمود غيره من الصيدلية ولكن الله سلم وكانت انفلونزا عادية وليست انفلونزا الخنازير.
   
    ولما بَرَأْت وشفيت عاودت الذهاب إلى الحرم وكنا أحيانًا نذهب بتاكسى فركبنا ذات مرة مع سائق يمنى ظل يقول لنا طوال الطريق أنه يكره مصر والمصريين لأن جمال عبد الناصر غزا بلده بجيشه وقتل الكثيرين وأنه لديه رغبة مُلِحَّة فى أن يقتلنا بدلا من أن يوصلنا إلى الحرم. ولما وصلنا قال: أنا أمزح معكم أنا أحب المصريين فهم أساتذتنا فى المدرسة ولكنى مازلت أريد أن أقتلكم وأنتقم لبلدى... فضحكنا وانصرفنا. وكنا كل يوم نركب مع سائق مختلف الجنسية فمرة سورى ومرة سعودى ومرة ماليزى...وهكذا. وكانت الأجرة مرتفعة جدًا نظرًا لموسم العمرة فكان خالى يتشاجر كل يوم مع السائق ويقول أن هذا استغلال.
   وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة ،،،،،
                                                              نرمين كحيلة

ليست هناك تعليقات: