الجمعة، 5 نوفمبر 2010

رحلة نرمين إلى البلد الأمين (الحلقة السابعة)

     ذهبنا مع الفتاة حيث أجلستنا على الأرض وسط حشد هائل من شتى أجناس الأرض ، كانت الأرض مفروشة بالمشمع الذى يفرش وقت الأكل ثم يطوى ويقذف به فى سلة المهملات..جلست أنا وخالتى على هذه السفرة العجيبة وتأملت الوجوه من حولى فإذا بها مختلفة الألوان والأشكال فإلى يمينى سيدة ذات بشرة سوداء ترتدى ملابس سودانية وإلى يسارى سيدة بيضاء تبدو من تركيا وأمامى سيدة ترتدى سروالاً وفوقه جلبابًا قصيرًا وقد وضعت قرطًا فى أنفها ، هذه السيدة وجدتها تمد يدها وتصافحنى بحرارة وهى تبتسم لى ابتسامة عريضة فتعجبت من أمرها هى لا تعرفنى ومع ذلك تصافحنى ؟! ووجدتها تقبل من بجوارها وتحتضن من خلفها وتغنى أغانى بلغتها غير المفهومة لا يفهم منها إلا كلمة "محمد" فسألتها من أى البلاد أنتِ ؟ فلم تجب إذ أنها لم تفهم سؤالى فسألت من بجوارها فقالت: لا أعرف ولكنى سمعتها تقول باكستان واتضح أنها تنشد أناشيد فى مدح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم باللغة الأردية ولاحظت أنها تشير إلى أنفها المخروم والذى وضعت فيه قرطًا للزينة ويبدو أنه كان يؤلمها ولكنها قالت:أمى هى التى وضعته لى.

    وكانت كل الباكستانيات يضعن هذا القرط فى أنوفهن.. وأخذ الناس يتعرفون ببعض فقالت لى سيدة على يمينى كلامًا لم أفهمه فسألتها: من أى البلاد أنتِ ؟ قالت باللغة الانجليزية: أنا "جوهرة" من العراق فتعجبت لأمرها إذ كيف تكون عراقية ولا تعرف العربية وخمنت أنها ربما تكون كردية فالأكراد ليسوا عربًا والعراق به خمسة عناصر أو أجناس وتذكرت الآية الكريمة التى تقول "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا". لقد تجلت عظمة الله وقدرته وحكمته أن يخلق الناس مختلفين فى اللغة والعادات والتقاليد ويكون كل شعب مختلف عن الآخر وكل قبيلة مختلفة عن الأخرى والهدف هو التعارف. كان مشهدًا عظيمًا يستحق صورة تذكارية فالكل يأكل فى وقت واحد ويصلى فى وقت واحد على اختلاف مشاربهم وبلادهم. سألت المشرفة على المائدة أو السفرة كما يسمونها: من أى البلاد أنتِ ؟ قالت: من "تشاد" لكنى أعيش هنا. أما الطعام الذى كانوا يوزعونه علينا فكان عبارة عن عيش صيامى ودُقة المدينة وتمر(وأحيانًا رُطَب) وماء وأحيانًا عصير وزبادى وشاى وقهوة عربية ولا أعرف لماذا ذكرنى هذا المشهد بأهل الجنة وهم جالسين ويطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين. فكانت أحيانًا تأتينا فتيات صغيرات يخدمننا ويقلن لنا: هل تردن شيئًا آخر ؟ ولاحظت الأدب الجم فى تعاملهم مع الصائمين فقلت: أهل المدينة منذ زمن النبى وحتى اليوم فيهم السماحة والطيبة والخلق الرفيع ، إنى أحب أهل المدينة أليسوا هم الأنصار الذين نصروا الرسول صلى الله عليه وسلم والذين أحبهم وأحبوه ودفن معهم فى مدينتهم ؟
    
   وبعد عشر دقائق أذن المؤذن للصلاة فجمعت الموائد واصطف الناس لصلاة المغرب وكما حدث فى المسجد الحرام حدث فى المسجد النبوى نفس مشهد الصفوف المعوجة وغير المكتملة وهناك من يصلى بطريقة خاطئة. ولكن ما لاحظته روح الحب والأخوة فى الإسلام التى توحد قلوب المسلمين على اختلاف جنسياتهم وذكرنى ذلك بالآية التى تقول:"لو أنفقت ما فى الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم". وقلت لنفسى: ما أعظم الإسلام!! إن هذه الأُلفة والوحدة والمحبة والمؤاخاة بين المسلمين لا توجد فى أى دين آخر ، إنها معجزة ، كيف استطاع الإسلام أن يوحد الناس ويوحد قلوبهم على دين واحد بهذا الشكل فكلنا نأكل فى وقت واحد ونصلى فى وقت واحد ونحب بعضنا بعضًا دون عصبية قبلية فقد ألغاها الإسلام وقال النبى الكريم:"دعوها فإنها منتنة".كيف استطاع العرب الذين كانت تأخذهم النعرة العرقية والعنصرية وكانوا يكرهون غير العرب ويعتبرونهم أقل منهم قيمة وأن العربى هو خير أجناس الأرض كيف استطاعوا التخلص منها واستيعاب الأجناس الأخرى فى بلادهم بهذا الشكل ؟ لا شك أن هذه معجزة إلهية كنت أستمتع كل يوم بمشاهدتها وأقول سبحان من ألف بين قلوب الناس على اختلاف مشاربهم فالمسلمون من كل جنسيات العالم تأتى كل يوم لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يتقاسمون الطعام والشراب والجلوس والنوم والعبادة وكل شئ وأحسست أن هؤلاء الناس قد أتوا مدعوين على شرف محمد صلى الله عليه وسلم وكأنه المضيف صاحب البيت وهؤلاء زواره وقلت فى نفسى: ما أشد فرحتك يا رسول الله بأمتك!! خرجت طريدًا فى جنح الظلام وكم آذوك وعذبوك وحاولوا قتلك والقضاء على دينك وكان أتباعك قليلون ومعظهم من الجزيرة العربية أما الآن فقد أصبح أتباعك بالملايين أتوا إليك قاطعين المسافات الطويلة حبًا فيك وفى دينك ، فقد نصرك الله وحبب فيك الناس فهم لا يبرحون مسجدك ليلاً أو نهارًا حتى حين تغلق أبواب المسجد ينتظرون على أعتابه حتى يؤذن لهم بالدخول.

      وقد أثر فىَّ ذلك المشهد كلما رأيته حتى اغرورقت عيناى بالدموع ...وقد وضع هو اللبنة الأولى لذلك حين اتخذ من أصحابه صهيب الرومى وبلال الحبشى وسلمان الفارسى وتذكرت كتابًا كنت قد قرأته عن قصة إسلام "مراد هوفمان" السفير الألمانى فى المغرب حيث يقول: أن أجمل شئ جذبه فى الإسلام هو الأخوة فى الله وحكى أنه ذات يوم ذهب للحج فسأله موظف الجوازات هل أنت مسلم ؟ فقال: نعم ففوجئ بالموظف يقوم من مكانه ويعانقه ويقبله ويحتضنه ويقول أن هذا المشهد قد أثر فيه تأثيرًا كبيرًا.
     ولما كان التفكر هو العبادة المفضلى لدىَّ فقد كنت أرقب وجوه الناس كل يوم وأسبح الله فى صمت.....وبعد انقضاء الصلاة عدنا إلى الفندق لننام ولكننى  لشدة تعبى لم أستطع أن أستيقظ لصلاة التراويح. لكنى تذكرت كلمة الفتاة التى قابلتها فى الحرم أول مرة حيث قالت لى:هنا لابد أن تصلى حتى السنن غير المؤكدة لأن الصلاة بألف صلاة فذهبت لصلاة الفجر ووجدت جميع المحلات تغلق وقت الصلاة ثم تفتح أبوابها بعد انتهائها فى الصباح الباكر فقلت: ليت هذا يحدث عندنا فى مصر فلا المحلات تفتح مبكرًا ولاهم يغلقونها وقت الصلاة.

     جاء خالى بعد صلاة التراويح ومعه الكبسة السعودية بالدجاج وهذه هى أشهر أكلاتهم وأجودها فأخذنا نأكل جميعًا وأحببتها فكان يأتى لنا بها كل يوم..ولكن ما عكر علينا صفو هذا الجو الروحانى الجميل هو الوقوف فى طابور الحمام يوميًا حتى يأتى دورنا وكانا يطلبان منى أن أرقب لهما الطريق هل خلا الحمام أم لا ؟ وبالطبع كان الحمام غير نظيف وخشيت أن ينقل لنا الأمراض
    
    وفى اليوم التالى ذهبنا للتسوق بين أوقات الصلاة وكانت هناك أسواق كثيرة وحوانيت متعددة اشتهرت ببيع البخور والحلى والذهب وسجاجيد الصلاة ولعب الأطفال والمسابح المختلفة الأشكال والأنواع والساعات. ودخلت مع خالتى أحد المحال التجارية ، وبمجرد أن دخلنا وجدت صاحب المحل – وهو سعودى – يقول لنا: أهلاً أهلاً بأهل مصر. فتعجبت وقلت له:"وكيف عرفت أننا مصريين؟" فقال:"أنا بخبرتى كتاجر أستطيع أن أميز بين المصريين والمغاربة والشوام وكل الجنسيات كما أننى ذهبت إلى مصر وأعرف أهلها" ثم أخذ يمتدح  مصر وأهلها ويقول:"أنا أحب مصر وأهل مصر.فقلت:يااه أنت مغرم بمصر وتحبها حبًا جمًا!! قال: نعم ، هل أنت من القاهرة أم الاسكندرية ؟ قلت أنا من الاسكندرية وخالتى من القاهرة فقال: أهلا يا خالة. نورتما المحل.ثم سألنى: هل أنتِ متزوجة أنا نظرت إلى يديكِ فلم أجد دبلة ، أكيد لستِ متزوجة أليس كذلك ؟ فأجبت: نعم أنا لست متزوجة. فقال متهللا: هذا من حسن حظى ، واللهِ لو وافقتِ أن تسكنى فى المدينة لأجعلنك ملكة ! فتعجبت ولم أجبه ثم قلت له: هل عندك حنة لطلاء الأظافر فقال: أجمل حنة لأجمل مصرية رأيتها. فتجاهلت ما قال وكأنى لم أسمعه ثم قلت: بكم هذه الساعة ؟(وكانت ساعة على شكل خاتم) فقال: بعشرة ريالات..خذيها بالسعر الذى يعجبك..سوف أعمل لك خصم. ثم قال: وهذه زجاجة عطر بخمسة ريالات فقط ، رائحتها جميلة ، شميها. فقلت له: ولكنى لا أريد عطورا فقال: هى هدية لكِ أرجوكِ أن تقبلينها. ثم وضعها فى حقيبة بلاستيكية وأعطاها لى.
   ثم قال: أرجوكِ فكرى فى الأمر بجدية وعودى مرة أخرى فقلت: إن شاء الله. فقال: واللهِ إذا لم تعودى فسوف أدعو عليكِ. ثم أخذ يرمقنى بناظريه بينما كنت أختار الأشياء التى سوف أشتريها وأقلب فيها.

     وخرجنا من المحل وقالت لى خالتى: ماذا فعلتى بالرجل إنه لم يكد يتركنا نغادر المحل إلا بالكاد ؟ قلت: أنا لم أفعل شيئًا الموقف كله كان أمامك. فقالت: وهل تقبلين أن تتزوجى سعودى ؟ قلت: الفكرة غير مرفوضة فأنا لا تهمنى الجنسية بقدر ما يهمنى الشخص نفسه وهل يكره أحد أن يعيش فى المدينة ويجاور الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت مازحة وهى تضحك: طيب فوتى أمامى لقد أصبح خروجك معى خطرًا.
       وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة ،،،،،،
                                           نرمين كحيلة
 



ليست هناك تعليقات: