الخميس، 4 نوفمبر 2010

رحلة نرمين إلى البلد الأمين (الحلقة الرابعة)

     كانت مشاعر جياشة تنتابنى وأنا أخطو نحو الصفا والمروة ، وتذكرت على الفور رحلة السيدة العظيمة هاجر المصرية التى شرَّفت كل المصريين بانتسابها إليهم والتى ضربت أروع مثل للأم المصرية وحققت المقولة الشهيرة التى تقول أن الأمومة اختراع مصرى والتى تفتخر كل امرأة بانتسابها إلى جنس النساء..قلت لنفسى: أليست هذه المرأة من زمن الفراعنة وقيل أنها كانت أميرة من الأميرات المصريات من البيت المالك ؟ فلماذا إذن يتهمون قدماء المصريين بالكفر والشرك ؟ هذا ظلم وتعميم أعمى. وقد استحقت بفعلها هذا أن تكون زوجة لرسولنا الكريم يوم القيامة..وأخذت أتخيلها وهى تجلس وفى أحضانها سيدنا إسماعيل رضيعًا ومشهد سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يتركها فى صحراء قاحلة موحشة ، إن هذا الأمر صعب على أية زوجة لذلك فقد استنكرت أن يفعل بها هذا. إن أى عقل لا يقبل أن تترك امرأة مع ابنها الرضيع فى صحراء لا زرع فيها ولا ماء وهى حديثة عهد بالولادة وربما كانت فى فترة النفاس أى أن قواها خائرة وضعيفة تحتاج لرعاية وتغذية ولكن الزوجة المؤمنة بربها المخلصة لزوجها تقول له: هل أمرك الله بهذا ؟ لأنها أحست أن زوجها المخلص لا يمكن أن يوردها التهلكة وعندما علمت أنه أمر الله كانت واثقة تمامًا أن الله لن يضيعها بل سوف يرعاها ويحفظها فى غياب سيدنا إبراهيم أكثر من وجوده.

      
    وهذا يدل على منتهى الإيمان والثقة فى الله فهى ليس لديها أدنى شك فى رعاية الله لها وكانت المكافأة من الله على صبرها وإيمانها تلك المعجزة الخالدة التى ستستمر إلى يوم القيامة ، ليس هذا فحسب بل تكريم لسيرة تلك السيدة الفاضلة المؤمنة تكريمًا أبديًا وجعل النساء والرجال يحذون حذوها ويسيرون على نفس خطاها حتى يتعلمون منها كيف يتوكلون على الله ولا ييأسون حتى لوكانت كل مظاهر الحياة منعدمة.
    رأيت جزءًا من جبل الصفا مازال ظاهرًا فاقتربت منه وتأملته ، وتذكرت أن هذا الجبل هو الذى بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم منه دعوته وهناك قال له أبو لهب: تبًا لك فنزلت سورة المسد. ثم بدأت الشوط الأول وأنا أتلو آية "إن الصفا والمروة من شعائر الله...." وقلت لنفسى: لا شك أن هذه الأرض لم تكن ممهدة بذلك الشكل وقت أن خطت عليه السيدة هاجر رضى الله عنها فلماذا تم محو كل أثر له بهذه الطريقة كان يجب أن يتركوه كما هو حتى يشعر الناس بمدى معاناتها وهى تمشى على أرض وعرة صخرية جبلية تؤذى القدم وتؤثر فيها! فما قيمة الأثر إذا تم تغييره ؟ فالهرم الأكبر مثلا فى مصر إذا تم اسبدال هرم آخر به من صنعنا نحن سوف يفقد قيمته ولن يزوره أحد. ولكن سر جماله أنه من صنع أجدادنا فى عصر ليس به إمكانات ولا تقنية متقدمة.
     ورأيت بقايا المروة الصخرية ووقفت عليها حتى أستشعر كم تعذبت وقاست وعانت وهى تسير على تلك الصخور الصماء الجامدة ورأيت أناسًا مثلى يقفون عليها..وعند نقطة محددة بأضواء خضراء رأيت الرجال يهرولون ومنهم خالى ووجدتهم يلهثون من شدة التعب فقلت لخالى:إن هذا المجهود الشاق لا يقوى عليه الرجال وقد تعبت أنت منه فما بالك بامرأة ضعيفة نفساء كيف تحملت كل ذلك ؟ قالت خالتى:"إن الله فعل ذلك ليرى الرجال كم تتعب النساء من أجلهم ويذوقون من كأس الشقاء الذى تتجرعه النساء حتى يعرفون قدرهن. قلت: سبحان الله إن الذى هرول امرأة ولكن الله أمر الرجال أن يهرولون دون النساء أى كل رجال العالم يحذون حذو امرأة فما أعظم الله الذى كرم المرأة!! إننا أيضًا يجب أن نتعلم من هذه القصة درسًا مهمًا هو أن الإنسان لا يجب أن ييأس مهما كانت الظروف حوله صعبة ومعقدة فلو كانت السيدة هاجر قد يأست من أول شوط ما أعطاها الله ما تريد ، كان من الممكن مثلاً أن يوفر الله عليها ذلك الجهد والوقت الذى بذلته فى السبعة أشواط ويخرج لها الماء من أول شوط لكن الله جلت حكمته أراد أن يعلمنا درس الصبر وعدم اليأس وكان من الممكن أن تقول:لقد ذهبت إلى هذا المكان ولم أجد ماءً فلماذا أذهب مرة أخرى ؟ لكن إصرارها على تحقيق هدفها جعلها تكرر المحاولة عدة مرات فكأن الله قال لها: بما أنك حاولت واجتهدت وبذلت أقصى ما فى وسعك فسوف أرزقك من مكان آخر لا تحتسبيه غير الذى سعيت فيه وأنزل جبريل عليه السلام فضرب الأرض بجناحه حتى خرج الماء من بين أرجل إسماعيل عليه السلام. وكأن الله يقول لنا أنتم لا ترزقون بفضل مهارتكم وعلمكم ولكن ترزقون برحمتى.وهذا هو تفسير الآية التى تقول:"ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب"أى من طريق لا يتوقعه..فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نأخذ بالأسباب ولا نتواكل ونتكاسل.وهو أيضًا تفسير قول قارون:"أوتيته على علم عندى". وطلبت من خالى أن يرينى النبع الأصلى لماء زمزم لكن أملى خاب حين علمت أنهم قد أغلقوه..فلماذا يمحون كل أثر لسيدنا إبراهيم وعائلته ؟ ولكن ما سرنى هو عناية الدولة بماء زمزم ووضعه فى براميل بلاستيكية بعضها مبرد والآخر غير مبرد حتى يرضون جميع الأذواق ووضع كاسات جديدة بلاستيكية على اليمين للشرب وأما الكاسات المستعملة ففى اليسار فأعجبنى هذا النظام وقلت سبحان الله منذ حوالى أربعة آلاف عام لم يجف نبع زمزم وما زال يسقى ملايين الناس العطشى الذين يأتون من كل مكان ! إن هذا يدل على أن الله قادر على رزق عباده. فمن ذا الذى ييأس من رحمة الله ويشك فى قدرته على رزقه ؟

    ثم شربنا من ماء زمزم وتذكرت قول الرسول الكريم:"رحم الله هاجر لما تفجر ماء زمزم قالت: زم زم وأخذت تكفه بيدها فلو كانت تركته لأصبح نهرًا يجرى فى بلاد العرب". وتذكرت أن زمزم لما شرب له وشربت منه عدة مرات بنيات مختلفة كانت إحدى هذه النيات أن يرزقنى الله الفهم والحفظ ويزيدنى علما ويفقهنى فى الدين ومرة أخرى أن يدخلنى الجنة...وهكذا. وتذكرت قول الشيخ وجدى غنيم أنه شرب ماء زمزم ليحفظ أسماء الصحابة والمعارك وبالفعل تحقق
له ذلك ورجل آخر تاهت منه أمه أثناء الطواف فشرب ماء زمزم بنية أن يجدها فوجدها.
    وبعد أن انتهى السعى قلت لخالى: كم يبلغ طول السبعة أشواط ؟ فقال: سبعة كيلو مترات.قلت: إنها مسافة طويلة جدًا ، لكنى سعيدة أنى سرت فى نفس الطريق الذى سارت فيه سيدتنا هاجر وإن شاء الله سأسير على خطاها فى الحياة أيضًا. ثم كان علينا أن نتحلل من إحرامنا فقالت لى خالتى لابد أن نقص شعرنا أنا وأنتِ ولكن من يقوم بالقص لابد أن يكون قد تحلل من إحرامه فوجدنا بعض النسوة من جنسيات مختلفة فأعطينا واحدة منهن مقصًا فقصت شعر خالتى ثم قصت لى خالتى شعرى وفوجئنا بعدد هائل من النساء يتوافدن علينا تريد كل واحدة أن نقص لها شعرها بمقصنا ففعلنا.

     ثم ذهبنا بعد ذلك إلى الكعبة لنمتع ناظرينا بروعتها وجمالها فإن النظر إلى الكعبة عبادة..وجلست على السلالم أمامها ما أستطيع أن أحول نظرى عنها ولكنى وجدت سيدة تبدو ملامحها عربية تصلى بطريقة خاطئة حيث ترتكز بمرفقيها على الأرض وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأنه تشبه بالكلب والله قد كرمنا فاقتربت منها وحييتها بتحية الإسلام فردت التحية فقلت لها:"أريد أن أقول لك يا أختاه أن مرفقك لابد أن يبتعد عن الأرض أثناء السجود" فنظرت إلَىَّ مذهولة ولم تنطق فتعجبت من أمرها ثم إذا بها تحادثنى باللغة الإنجليزية وتقول: معذرة أنا لا أستطيع التحدث بالعربية. فابتسمت وقلت لها بالانجليزية وما هى جنسيتك ؟ فقالت:"أنا من جنوب أفريقيا" فشرحت لها الطريقة الصحيحة للصلاة مع تمثيل المشهد بطريقة عملية فابتسمت وشكرتنى ثم قالت:كل المسلمين عندنا يفعلون ذلك. فقلت:إذا رأيت أحدًا يخطئ فى الصلاة فيجب أن تنصحيه.قالت:سوف أفعل ولكن أرجو أن تدعى لى فقلت لها وما اسمك ؟ فقالت:"فريدة" فدعوت لها ثم سألتنى من أى البلاد أنتِ ؟ فقلت : أنا مصرية. فابتسمت وقالت: أنا عندى صديقة مصرية تعمل مذيعة فى التليفزيون اسمها وفاء هل تعرفينها ؟ قلت: لا. ثم سألتنى هل جئتِ للعمرة ؟ قلت:نعم.فقالت: وهل هذه هى المرة الأولى التى تأتين فيها إلى مكة فقلت: نعم. قالت:هل زرت الرسول ؟ قلت: ليس بعد ، ربما غدًا. فقالت: أما أنا فسوف أزوره يوم الاثنين إن شاء الله. قلت لها:أنا سعيدة بوجودى هنا فى هذا المكان.فقالت:طبعًا أى مسلم يسعد ويفرح عندما يأتى إلى هنا. وكانت تسمع حديثنا سيدة تصلى بجوارنا فقالت لى بالانجليزية:"هل أنتِ مصرية ؟ فقلت: نعم.فقالت:إن ملابسك جميلة وأنيقة من أين اشتريتها ؟ من مصر!! قلت:نعم.ثم أشارت لى خالتى فاستأذنت منها وقلت:أنا سعيدة للقائك وأرجو أن تزورينى حين تأتى إلى مصر.فقالت:وأنا أسعد ، إلى
اللقاء. سألتنى خالتى: ماذا كنتِ تقولين لها ؟ فحكيت لها ما حدث فقالت:يا سلام يا نرمين لو سافرت أية دولة تدعى الأجانب إلى الاسلام وتفقهين المسلمين الجدد فى أمور دينهم. فقلت لها: "أنا ما دخلت معهد الدعوة إلا لتحقيق ذلك الهدف وأرجو أن يوفقنى الله فيه فأنا أشعر بأن علىَّ مسؤولية كبرى فى الدعوة". ثم جلست أشكر الله وأحمده أن جاء بى إلى هذا المكان ولبى الدعاء إنه سميع مجيب.

       وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة،،،،،
                                                      نرمين كحيلة

ليست هناك تعليقات: